د.منصور محمد الهزايمة
وداعا طلال…وداعا السفير
بقلم د. منصور محمد الهزايمة
شدّني مشهد الصحفي اللبناني المخضرم طلال السلمان وهو يطفئ أنوار مكتبه في جريدة السفير اللبنانية ويتناول مقتنياته الخاصة ويخرج منه لأخر مرة كان ذلك مؤثراً على نحو خاص حيث أقام في مكتبه هذا عقودا تنيف عن الأربعة قائما على رعاية “صحيفة لبنان في الوطن العربي وصحيفة الوطن العربي في لبنان”.
بقرار مثير لكنه غير مفاجئ قرر السلمان اغلاق الجريدة المعروفة التي عانت العديد من المشكلات منها قلة الموارد الناتجة عن انصراف الإعلانات وزيادة التكاليف وقلة التوزيع ونقص موارد الدعم التي كانت تحضى به محليا وعربيا وحزبيا على الرغم مما قد يؤخذ على هذا الدعم من التأثير في خط أي صحيفة.
لتفسير ما أقدم عليه السلمان كتبت السفير على موقعها الرسمي” المجتمع ليس بخير، والاقتصاد ليس بخير، والسياسة ليست بخير، وهذا كله لا يمكن إلا أن ينعكس على الصحافة وينهكها”.
بدا السلمان بتعابير وجهه وهو يغادر مكتبه كمن ينتقل إلى حياة أخرى ويشبه فيما قام به الفلاح الذي زرع شجرة ما انفك يرعاها وترعاه يعطيها من وقته وجهده وتعطيه من بذرها وثمرها وظلها ليصل يوما بظروف خارجة عن إرادته فيحمل فأسه ليقطعها من جذورها بألم شديد بذات اليد التي زرعت.
خطوة السفير ليست متفردة ولا سابقة بل ذهب أليها عديد الصحف من ذوات الأسماء البراقة عالميا وعربيا التي وصلت الى قناعة مفادها لم يعد الزمن زماننا ولم نعد نقوى على المكابرة.
النهار، الوطن، اللواء لبنانيا، الامارات اليوم، التحرير المصرية، الاندبندت البريطانية مجلة نيوزويك الامريكية وغيرها الكثير من الصحف والمجلات الورقية التي أغلقت أبوابها وتخلت عن موظفيها تحت ظل ظروف منهكة جعلتها غير قادرة على دفع أجرة المبنى أو رواتب العاملين.
قد لا ينتبه لخبر إغلاق جريدة بوزن السفير عدد كبير من الناس خاصة الأجيال الشابة التي فتحت عيونها على الحياة ولم تسعد بتجربة أو متعة تقليب أوراق صحيفة في يوم من الأيام.
سقا الله أيام كان منظر الجريدة في يد أحدهم يثير الاهتمام وينبئ عن أنه ربما ينتمي لفئة المثقفين وكان البعض يحرص على شراء الجريدة وإحضارها إلى العمل أو البيت وكثيرا ما تُترك بعد تصفحها في مكانها كتقليد على إتاحة الفرصة للغير من أجل المعرفة والاطلاع ومن الطرائف التي ما زلت أذكرها أن أحدهم كان دائما يركب معنا في مواصلات النقل العام وتلازمه ابدا جريدة ملفوفه فكنا ننظر اليه بعين الإعجاب على أنه لا بد أن يكون من فئة المثقفين وذات يوم يظهر طرف جهاز تلفون لاسلكي من الجريدة لنقرر بإجماع أنه من المخابرات ونحرص على عدم الحديث أمامه بأي شأن لنكتشف بعدها بأشهر أنه مهندس يعمل في شركة الكهرباء فقد رسّخ الفيلم العربي في اذهاننا أيضا أن المخبر ورجل المخابرات لا بد أن يحمل جريدة كي يخفي وجهه أو جهازه ويتعلل بقراءتها وهو يطارد فرائسه.
كان يثير اهتمامنا وأحيانا شفقتنا مشهد الموزعين وهم يتخذون أماكنهم الثابتة في شتى وأشد الظروف الجوية قسوة ويضاف اليها مخاطر الطرق والسيارات لكنا نسعد برؤيتهم وبخفة حركتهم وكنا نفرح عنما نذهب إلى أقرب مكتبة لنجد فيها تشكيلة من الصحف المحلية والعربية وعندما لا نجد ثمنها نقرأها وقوفا أمام المكتبة وننبهر بصورها وعناوينها الأخاذة وصور كتّاب الأعمدة فيها فهم ليسوا أناسا عاديين وما نقرأه فيها لا يعتريه شك وكان حلما أقرب إلى الخيال أن يفكر أحدنا بأن يرى اسمه أو صورته في أحدها لم نكن وقتها ندرك معاني الانحياز أو التبعية أو التضليل وما يهمنا فقط هو متعة تقليب الصفحات والقراءة والثقافة.
أذكر أنني عندما كنت أقف طويلا مفتونا بعناوين الصفحات واغلفة المجلات كي أقرا واطالع عناوين ما هو موجود وبعدها اختار جريدتي التي ليس بالضرورة أن تكون محليه فقد اختار القبس الكويتية وبعدها بيوم أو يومين أختار الرأي الأردنية ثم السفير اللبنانية أو مجلة المجلة أو الحوادث وكنت أقرا في كل منها ليومين أو أكثر وكان شعور الطفل وقتذاك كمن يتنقل بين حدائق غنّاء.
عاشت الصحافة الورقية لعقود في أزهى وقت وأبهى حله واستحقت لقب سلطة رابعة عن جدارة وكان لها تأثير السحر على الجميع فقد قال نابليون في عز مجده انني أخشى الصحافة أكثر من الطائرات وقد قيل قديما الكلمة كالطلقة لا يتفوق أحدهما على الأخر الا بما يحدثه أي منهما من تأثير.
تبدو الصحافة الورقية اليوم وكأنها على وشك الاحتضار تخسر المنافسة أمام غريم شرس له بريق وأنياب لا ينكر أحد تفوقه فرضته ظروف موضوعية على رأسها التفاعل مع الحدث بسرعة الضوء لا بسرعة النار في الهشيم –الا ترون أنه صار مثلا قديما ينم عن عكس القصد – ولم يعد القارئ قادرا أن ينتظر بفارغ الصبر حتى يصدر عدد الغد.
الدوحة – قطر