الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
وفي أنفسكم أفلا تبصرون – حاستي الشم والتذوق
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي- جامعة العلوم والتكنولوحيا الأردنية
لو أن البشر جميعهم قد خلقوا دون أن يمتلكوا حاستي الشم والتذوق لما خطر على بالهم أبدا وجود مثل هذه الحواس كما هو الحال مع بقية الحواس الخمس. وحاستي الشم والتذوق حاستان كيميائيتان (chemical senses) حيث تقوم الجزيئات المتطايرة في الهواء أو المذابة في اللعاب بإثارة خلايا عصبية متخصصة بعد إتحادها ببروتينات محددة موجود في نهاياتها العصبية. إن وظيفة حاسة الشم عند الحيوانات بشكل رئيسي هي لإرشادها لمصادر طعامها والتمييز كذلك بين أنواع الطعام المختلفة وكذلك للتعرف على شركائها عند التزاوج وكذلك مواليدها. وأما حاسة التذوق فهي مكملة لحاسة التذوق ومهمتها هي تحديد نوع الطعام وكذلك التمييز بين أنواعه المختلفة وذلك لكي تقوم بأكل المفيد منها إذا كان طعمه مرغوبا ولا تأكل الضار منها إذا كان طعمه غير مستساغ. ويوجد ارتباط قوي بين حاستي الشم والتذوق وذلك لكي تتمكنا من القيام بوظائفهما ويتم التعاون بين هاتين الحاستين من خلال التواصل بين مراكزهما في الدماغ. فقد وجد العلماء أن 75% من عملية تذوق الطعام تتم من خلال عملية الشم ولذلك نجد أن الإنسان يفقد الإحساس بمذاق كثير من المأكولات عند إصابته بالزكام أو عند تعطل حاسة الشم. ومن الجدير بالذكر أن حاسة الشم أقوى بعشرة آلاف مرة من حاسة التذوق فهي تستجيب لجزيئات معدودة يحملها الهواء الذي يمر على النسيج الشمي الموجود في سقف الأنف.
إن الذي صمم حاستي الشم والتذوق لا بد أن يكون عليم خبير ولا يمكن أن تكونا قد ظهرتا بالصدفة فمثل هذا التصميم يحتاج معرفة مسبقة بمكونات مختلف أنواع الأطعمة والأشربة الموجودة في الطبيعة. وعلى المصمم أن يحدد أولا المكونات المفيدة والضارة لجسم الإنسان وكذلك بقية أنواع الكائنات الحية ومن ثم يقوم بتصميم نظام إحساس يعلم الجسم بما هو مفيد وبما هو ضار. ولقد اختار المصمم أن يتم إعلام الجسم بالمواد النافعة والضارة من خلال أولا شم روائح الجزيئات التي تتطاير من هذه المواد وثانيا من خلال تذوق الجزيئات التي تذوب في اللعاب عن الأكل. فالروائح الطيبة والمذاقات المستساغة مجتمعة تشير إلى أن المواد مفيدة ويمكن للإنسان أكلها أو شربها والروائح الكريهة والمذاقات غير المستساغة تشير إلى أن المواد غير مفيدة وعلى الإنسان تجنب أكلها أو شربها. فعلى سبيل المثال فإن الطعم العذب أو غير المالح للماء يدل على أنه مفيد للجسم بينما الماء المالح يدل على أنه مضر بالجسم وفي غياب حاسة التذوق فإن الإنسان قد يشرب ماء البحر المالح دون أن يدري أنه مالح مما قد يؤدي إلى هلاك الجسم بسبب ارتفاع ضغط الدم.
إن أوجه الإعجاز في حاستي الشم والتذوق لا تعد ولا تحصى فأولها قدرة المصمم سبحانه وتعالى على معرفة مكونات ملايين الأنواع من الأطعمة والأشربة ومن ثم تحديد ما هو نافع وما هو ضار لجميع أنواع الكائنات الحية. أما ثانيها فهو تصميم مستقبلات بالغة الدقة يمكنها أن تستجيب لكميات بالغة الصغر من جزيئات المواد بحيث تعطي نبضات عصبية عند إثارتها من قبل هذه الجزيئات. أما وجه الإعجاز الثالث فهو تحديد المكان المناسب لوضع هذه المستقبلات فتم وضع مستقبلات الشم في سقف التجويف الأنفي ليمر عليها الهواء المحمل بالجزيئات المتطايرة من مختلف أنواع المواد وتم وضع مستقبلات التذوق في أول مكونات الجهاز الهضمي وهو الفم. أما وجه الإعجاز الرابع فهو في تصميم مراكز للشم والتذوق في الدماغ تعطي الإحساس بعشرات الآلاف من الروائح والمذاقات والتي تحدد رد الفعل الذي سيقوم به الجسم نحو هذه الروائح والمذاقات. أما وجه الإعجاز الخامس فهو أن الإحساس بروائح ومذاقات المواد يشعر بها الإنسان في أنفه للأولى وفي فمه للثانية رغم أن عملية تحديد نوع الرائحة أو الطعم تتم بالكامل في داخل الدماغ. إن أبسط طريقة تبين وجوه الإعجاز في هاتين الحاستين العجيبتين هو عجز البشر عن تصميم أجهزة ومعدات يمكنها التعرف على روائح ومذاقات المواد المختلفة بنفس الكفاءة التي تقوم بها هذه الحواس.
حاسة الشم
تتكون حاسة الشم (Olfactory or smelling sense) في الإنسان من عشرة ملايين خلية شم موزعة على رقعتين من النسيج الشمي (olfactory epithelium) موجودتين في سقف التجويف الأنفي. وتبلغ مساحة رقعة النسيج الشمي في كل أنف خمسة سنتيمترات مربعة ويميل لون النسيج إلى اللون الأصفر بسبب المادة المخاطية الصفراء التي تفرزها بعض خلايا هذا النسيج. وتتم عملية الشم من خلال مرور الهواء المحمل بالجزيئات المتطايرة أثناء عملية الشهيق على النسيج الشمى وتلعب القرينات الأنفية (turbinates or nasal conchae) دورا مهما في بعثرة الهواء المستنشق في جميع أنحاء التجويف الأنفي لكي تصل هذه الجزيئات إلى النسيج الشمي. ويتكون النسيج الشمي الذي يبلغ معدل سماكته 30 ميكرومتر من ثلاثة طبقات فالطبقة العلوية تحتوي على خلايا قاعدية (basal cells) والطبقة الوسطى تحتوي على أجسام الخلايا المستقبلة الشمية (olfactory receptor cells) والطبقة السفلية تتكون من خلايا داعمة (supporting cells) والمحاور والزوائد الشجرية للخلايا الشمية. وتقوم الخلايا القاعدية بإنتاج خلايا الشم الجديدة لتعوض ما يموت منها حيث يتراوح عمر خلايا الشم بين أربعة وثمانية أسابيع وبذلك فإن خلايا الشم هي الخلايا العصبية الوحيدة التي يتم تجديدها بينما لا يمكن تعويض بقية أنواع الخلايا العصبية في الجهاز العصبي. وأما الخلايا الداعمة فهي مجموعة من الخلايا التي تقوم بوظائف مختلفة ومن أهمها غدد بومان (Bowman’s glands) والتي تقوم بإفراز المخاط الأصفر (yellow mucus) الذي يغطي سطح النسيج الشمي وفيه تتم إذابة الجزيئات المتطايرة من المواد التي يتم شمها.
أما الخلايا الشمية فتتكون من عصبونات ثنائية القطبية (bipolar neurons) تتموضع أجسامها في الطبقة الوسطى من النسيج الشمي ويخرج من جسمها محورين أحدهما يذهب في إتجاه الطبقة الخارجية للنسيج الشمي والآخر يذهب في إتجاه البصلة الشمية (Olfactory bulb). ويتفرع من رأس المحور الأول وهو على شكل زر (knob) الزوائد الشجرية أو الأهداب (dendrites or cilia) والتي قد يصل عددها إلى عشرة زوائد تمتد خلال المخاط الذي يغطي سطح النسيج الشمي وهي التي تعمل كمستقبلات شمية. أما المحور العلوي فينقل النبضات العصبية من جسم الخلية الشمية إلى العصبونات الموجودة في البصلة الشمية وهي تمر من خلال ثقوب صغيرة (foramina) موجودة في الصفيحة الغربالية أو المصفوية (cribriform plate). والصفيحة الغربالية هي جزء من العظمة الغربالية (ethmoid bone) المكونة للجمجمة وسميت بهذا الاسم لكثرة الثقوب فيها وهي بذلك تشبه الغربال. وتتم إثارة الخلايا الشمية من خلال ذوبان جزيئات الروائح المتطايرة (Vaporized or volatile odor molecules) في المخاط الذي يفرزه النسيج الشمي وذلك أثناء مرور الهواء الذي يحمل هذه الجزيئات من خلال التجويف الأنفي إلى الرئتين. ويتم اتحاد جزيئات الروائح ببروتينات خاصة (odorant-binding proteins) تنتشر في المخاط وتقوم هذه البروتينات بإثارة مستقبلات مزروعة في الغشاء الخلوي لأهداب الخلايا الشمية مما يحدث سلسلة من التفاعلات الكيميائية في داخلها تؤدي في نهايتها إلى فتح قنوات الكالسيوم والكلور الموجودة في الغشاء الخلوي. وعند تدفق أيونات الكالسيوم إلى داخل الخلية وخروج أيونات الكلور فإن استقطاب الغشاء الخلوي سيتغيير مما يؤدي إلى توليد نبضة من جهد الفعل (action potential) الذي ينتشر باتجاه جسم الخلية ومنه إلى المحور الذاهب إلى البصلة الشمية.
أما المكون الثاني من مكونات جهاز الشم فهو البصلات الشمية (Olfactory bulbs) والتي لها شكل رأس البصلة الخضراء وتقع داخل الجمجمة فوق الصفائح الغربالية مباشرة وتحت الفصوص الجبهية (frontal lobes) وتعتبر جزءا من الدماغ الأوسط. وتتكون البصلة الشمية من خمسة طبقات وهي من الأسفل إلى الأعلى الطبقة الكبيبية (glomerular layer) والطبقة الظفيرية الخارجية (external plexiform layer) وطبقة الخلايا التاجية (Mitral cell layer) والطبقة الظفيرية الداخلية (internal plexiform layer) وطبقة الخلايا الحبيبية (granule cell layer). إن مهمة البصلة الشمية هو معالجة الإشارات التي تحملها محاور الخلايا الشمية بحيث يتم إرسالها إلى الدماغ باستخدام عدد أقل من الألياف العصبية حيث أن عدد الألياف الشمية التي تدخل البصلة الشمية الواحدة يبلغ خمسة ملايين عصب. وتتم عملية التقليص هذه في الكبيبات الشمية حيث تتشابك في داخل الكبيبة الزوائد الشجرية لعدد قليل من الخلايا التاجية مع ما يزيد عن ألفي ليف من الألياف القادمة من الخلايا الشمية وبذلك فإنه يوجد في البصلة الواحدة ما يقرب من ألفي كبيبة. إن الألياف الشمية التي تدخل الكبيبة الواحدة تكون في العادة من نفس النوع مما يعني أن كل كبيبة من الكبيبات قد تكون متخصصة في معالجة عدد محدد من الروائح. وتقوم الخلايا العصبية التاجية التي تستلم إشاراتها من الكبيبات بنقل هذه الإشارات إلى مراكز الشم في الدماغ ويبلغ عدد هذه الخلايا في كل بصلة 50 ألف خلية وتتحد محاور هذه الخلايا لتكون المسار الشمي الجانبي أو الوحشي (lateral olfactory tract) الذي يتكون من 50 ألف ليف. أما الخلايا الحبيبة فهي عصبونات تتشابك زوائدها الشجرية مع بعض الزوائد الشجرية للخلايا التاجية وقد وجد أنها تستلم إشاراتها من الدماغ لتقوم بتثبيط عمل الخلايا التاجية فتتوقف عن إرسال إشاراتها إلى الدماغ رغم وجود الرائحة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يحس برائحة ما عند شمها لأول مرة في مكان ما ثم يضعف إحساسه بها مع مرور الوقت طالما هو في نفس المكان ورغم وجود الرائحة. أما طبقات الظفائر الخارجية والداخلية فمهمتها إعادة ترتيب وتوجيه الألياف والزوائد الشجرية بين الخلايا التاجية وفيما بين الالكبيبات والخلايا الحبيبية.
يذهب المسار الشمي الذي يخرج من البصلة الشمية إلى مجموعة من المراكز المتعلقة بالشم في القشرة المخية (cerebral cortex) وذلك دون المرور على منطقة المهاد (thalamus) وذلك بعكس بقية الحواس. والمراكز الشمية التي تتوزع عليها ألياف المسار الشمي هي القشرة الكمثرية أو الشمية (piriform or olfactory cortex) والقشرة ما حول اللوزة المخية (periamygdaloid area) واللتان تقعان ضمن الدماغ الأوسط والحديبة الشمية (olfactory tubercle) والتي تقع في قاعدة الفص الأمامي. ومن هذه المراكز الشمية تخرج أعصاب محركة إلى مناطق مختلفة من الدماغ من أهمها منطقة تحت المهاد (hypothalamus) وذلك لإنتاج ردود الفعل المناسبة للرائحة (odor) التي تم شمها كالهرب من أماكن الحريق أو الذهاب إلى مصدر الطعام أو غير ذلك. إن إحساس الإنسان برائحة محددة يتم من خلال تنفيذ برامج محددة مخزنة في مراكز الشم في الدماغ فالنبضات العصبية المنبعثة من مستقبلات الشم الموجودة في الأنف لا تختلف عن بعضها البعض من حيث الشكل ولكنها تثير عند وصولها لمراكز الشم الخاصة بها أحاسيس مختلفة في الدماغ.
إن حاسة الشم هي الحاسة الوحيدة التي لا زال العلماء يجهلون الطريقة التي تعمل من خلالها واقترحوا نظريات كثيرة حول طريقة عملها. فبعض النظريات تقول أنه يوجد ما يقرب من ألف نوع من خلايا الشم الحساسة لمختلف أنواع المواد الكيميائية وهي قادرة على تمييز ما يزيد عن عشرة آلاف رائحة مختلفة. بينما يقول علماء آخرون أن هناك سبعة أنواع من مستقبلات الشم تستجيب لسبعة أنواع من الروائح الأولية ويمكن لحاسة الشم من خلال مزج هذه الروائح الإحساس بعدد كبير جدا من الروائح المختلفة كما هو الحال مع حاسة البصر التي يمكنها إدراك عدد هائل من الألوان من خلال مزج ثلاثة ألوان أساسية فقط. ولهذا السبب فإنه لا يوجد أسماء للروائح الأساسية (odorants) كما هو الحال مع حاستي التذوق إلا أن يوجد تصنيفات عامة للروائح كالروائح العطرية (aromatic) والمنفرة (repulsive) والأثيرية (ethereal) والراتنجية (resinous) والتبولية (spicy) والمحترقة (burned) والنتنة أو العفنة (putrid).
إن مستقبلات الشم شديدة الحساسية وهي كما ذكرنا سابقا تزيد بعشرة آلاف مرة عن حساسية مستقبلات التذوق. فعلى سبيل المثال فإن حساسيتها لمادة إيثيل الكحول الكبريتي (ethyl mercaptan) تبلغ 40 جزء من ألف بليون جزء من الغرام لكل لتر من الهواء (4 x 10-8 mg per liter of air). ولقد وجد العلماء أن مستقبلات الشم يمكنها أن تستجب لجزيء واحد فقط لبعض المواد ولا تتجاوز عدة جزيئات لبقية المواد. إن حساسية مستقبلات الشم تكون أعلى ما يكون عند تعرضها لجزيئات المادة لأول مرة ثم تقل تدريجيا مع استمرار وجود رائحة تلك المادة وذلك بسبب وجود نظام التغذية الراجعة حيث يقوم الدماغ بإرسال إشارات إلى الخلايا العصبية في البصلة الشمية توقف مرور النبضات القادمة من المستقبلات الشمية لتلك الرائحة فقط بينما يمكنها الإستجابة لبقية الروائح. ويمكن لحاسة الشم عند الإنسان أن تفرق بين ثلاثة أنواع مختلفة من الروائح في نفس الوقت.
إن حاسة الشم عند الإنسان رغم أنها ليست أكثر حساسية من تلك التي لبقية الحيوانات إلا أنه قد تم تصميمها بحيث يمكنها التمييز بين ما يزيد عن عشرة آلاف نوع من الروائح المختلفة وذلك من خلال وجود عشرة ملايين خلية شم مختلفة موزعة على رقعتين من النسيج الشمي موجودتين في سقف التجويف الأنفي. فحاسة الشم عند كثير من الحيوانات أقوي منها عند الإنسان فعلى سبيل المثال تبلغ مساحة النسيج الشمي عند الكلاب في كل أنف خمسين سنتيمتر مربع مقارنة بخمسة سنتيمترات مربعة عند الإنسان وكذلك تزيد كثافة الخلايا الشمية عندها في السنتيمتر المربع الواحد بمائة مرة عن كثافتها عند الإنسان. وبما أن حساسية الشم عند الكلاب تزيد بمائة مرة عن تلك لدى الإنسان فإنه يمكنها إلتقاط بعض الجزيئات التي يتركها جسم المجرم في موقع الجريمة بعد مرور ما يزيد عن 24 ساعة ويمكنه تتبع آثار مسار المجرم بكل سهولة. إن القدرة الفائقة لحاسة الشم في التفريق بين مختلف أنواع الروائح تمكن الإنسان من الاستمتاع بمختلف أنواع الروائح العطرية التي تصدرها أزهار وثمار آلاف الأنواع من النباتات وكذلك الاستمتاع بأطايب الطعام من خلال تعاون حاستي التذوق والشم. وكذلك تساعد حاسة الشم الإنسان على تجنب مواقع المواد المتعفنة والتي تحتوي على أنواع كثيرة من الجراثيم الضارة بصحته وذلك من خلال إحساس الإنسان بروائح كريهة تنبعث من هذه المواقع.
حاسة التذوق
تتكون حاسة التذوق (gustatory or taste sense) من عشرة آلاف برعم تذوق (taste buds) غالبيتها موجودة على سطح اللسان (tongue) والبقية على سطح الحنك واللهاة وجوانب الفم. وبرعم التذوق هو عبارة عن كيس أو جراب (sac) يمتد داخل جسم اللسان وله فتحة صغيرة (Taste pore) بارزة عن مستوى سطح اللسان تظهر على شكل حلمة (papillae). ويحتوي برعم التذوق الواحد ما بين 50 و 150 خلية أو مستقبل التذوق (taste cells) وهي من مختلف الأنواع ولكن قد تزيد نسبة بعضها عن البقية وذلك حسب موقعها على سطح اللسان. ويوجد في داخل برعم التذوق إلى جانب خلايا التذوق (Taste Cells) خلايا أخرى وهي الخلايا القاعدية (Basal Cells) والخلايا الداعمه (Supporting cells). فالخلايا القاعدية هي خلايا جذعية موجودة عند قاعدة البرعم وتقوم بإنتاج خلايا التذوق والتي لا يتجاوز عمرها العشرة أيام. أما الخلايا الداعمة فهي خلايا تمتد بشكل طولي ووظيفتها كما يتضح من اسمها توفير الدعم البنائي لخلايا التذوق. وخلايا التذوق مع الخلايا الداعمة مرتبة في داخل كيس البرعم على شكل حزوز البرتقال.
أما خلايا التذوق فهي ليست خلايا عصبية كما هو الحال مع خلايا الشم بل هي خلايا تعمل كمستقبلات كيميائية تقوم بتحفيز خلايا عصبية حسية توجد عند قاعدة برعم التذوق. ويوجد على سطوح شعرات التذوق (Taste hairs or microvilli) التي تبرز من السطح العلوي لخلية التذوق مستقبلات تستجيب لجزيئات معينة من الطعام أو الشراب. وعند اتحاد جزيء الطعام المعني بالمستقبل فإن سلسلة من التفاعلات الكيميائية تحدث داخل الخلية تؤدي في النهاية إلى فتح قنوات الكالسيوم الموجودة في الجزء السفلي من الخلية ومن ثم يقوم الكالسيوم بتحفيز الحويصلات المشبكية (Synaptic vesicles) لتفريغ ما بداخلها من النواقل العصبية (neurotransmitters) في الفجوة الموجودة ما بين خلية التذوق والخلية العصبية. وتستجيب الخلية العصبية عند إثارتها بالناقل العصبي بتوليد جهد الفعل (action potential) الذي ينتقل عبر أعصاب الشم إلى مراكز الشم في الدماغ.
وتقسم مستقبلات التذوق إلى خمسة أنواع رئيسية وهي مستقبلات الحلاوة (sweet) والملوحة (salty) والحموضة (sour) والمرارة (bitter) واللحومية ( umami or meaty). وقد وجد العلماء أنواع أخرى من مستقبلات التذوق كالمستقبلات الدهنية (fattiness) والتي تثار من قبل الأحماض الدهنية ومستقبلات القبوضة أو العفوصة (astringency) والتي تثار من قبل حامض التانين أو العفص (tannins) الموجود في الفواكه غير الناضجة. أما إحساس اللسان وكذلك بقية أجزاء الفم بالحرارة (hotness) الناتجة من أكل الفلفل الحار وبقية أنواع التوابل فلا يعزوه العلماء لوجود مستقبلات تذوق خاصة بل تثار من قبل المستقبلات العامة الموجودة في الجلد كمستقبلات الألم والحرارة والبرودة.
وعندما يقوم الإنسان بأكل طعام ما أو شرب شراب ما فإن جميع المستقبلات الموجودة في اللسان ستثار بالجزيئات المكونة لهذا الطعام أو الشراب وذلك بدرجات متفاوتة وذلك حسب تركيزها. ويقوم الدماغ بمعالجة المعلومات التي ترسلها مستقبلات التذوق المختلفة عبر الأعصاب المتصلة بها ليعطي عدد لا يحصى من المذاقات والنكهات التي نتذوقها عند أكل وشرب مختلف أنواع الأطعمة والأشربة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يستطيع التفريق بين طعوم آلاف الأنواع من الفواكه والخضراوات وبذور وزيوت النباتات ولحوم وألبان الحيوانات بل له القدرة على التميز بين طعم ثمار النوع الواحد من النباتات كما نرى عند تفريقنا بين طعم مئات الأنواع من التمور أو التين والعنب والتفاح والبرتقال وغيرها.
ويتم إثارة مستقبلات الحلاوة من قبل الأطعمة التي تحتوي على المواد الكربوهيدراتية (carbohydrates) وخاصة السكريات البسيطة (saccharides) ومن قبل بعض المواد الصناعية غير الكربوهيدراتية كالسكارين (saccharin) والسكرالوز (sucralose). والطعم الحلو مرغوب بشدة من قبل البشر وهذا ضروري للجسم حيث أن المواد الكربوهيدراتية هي التي تزود الجسم بالطاقة اللازمة التي تحتاجها خلاياه. ويتكون مستقبل الحلاوة من بروتينات خاصة موجودة في الغشاء الخلوي لخلية التذوق يسمى المستقبل المرتبط ببروتين جي (G-protein-coupled receptors). وتثار هذه المستقبلات من خلال اتحاد جزيئات السكر البسيطة بالجزء الخارجي للمستقبل مما يؤدي إلى سلسلة من التفاعلات في داخل خلية التذوق تنتهي بإثارة نبضه عصبية في العصبون المرتبط بقاعدة خلية التذوق.
أما مستقبلات الملوحة فيتم إثارتها من قبل أيونات الصوديوم التي تنشأ من تحلل ملح الطعام في اللعاب وهي أبسط المستقبلات تركيبا حيث يتم دخول أيونات الصوديوم من خلال قنوات موجودة في أهداب خلايا التذوق. ولا يقتصر الإحساس بالملوحة على الصوديوم بل إن أيونات البوتاسيوم والكالسيوم والكلور والليثيوم وغيرها تثير مثل هذا الإحساس ولكن بدرجة أقل من الصوديوم. والطعم المالح مرغوب أيضا من قبل الأشخاص وهذا ضروري جدا لتزويد الجسم بما يحتاجه من أملاح تلعب دورا كبيرا في إتمام وظائف الخلايا المختلفة. أما مستقبلات الحموضة فتثار من قبل مختلف أنواع المواد الحامضية ويتم ذلك من خلال دخول أيونات الهيدروجين (H+ ions) الموجودة في تلك الأحماض من خلال قنوات خاصة بها موجودة في أهداب خلايا التذوق. والطعم الحامض غير مرغوب به بشكل عام وهذا ضروري جدا للجسم حيث أن معظم الأطعمة الفاسدة (spoiled foods) ذات طعم حامض وبذلك فإنه يمكن للمرء تجنب أكلها إذا ما أحس بحموضتها. وقد يستسيغ المرء أكل بعض المأكولات ذات الطعم الحامض إذا ما تيقن أن سبب حموضتها ليس بسبب فسادها كما هو الحال مع كثير من أنواع الفواكه كالبرتقال والليمون والألبان والأجبان بعد تخميرها.
وأما مستقبلات المرارة وهي من نوع المستقبلات المرتبطة ببروتين جي فتثار من قبل الأطعمة التي تحتوي على بعض أنواع الجزيئات العضوية النيتروجينية (nitrogenous organic molecules) كالكفايين (caffeine) والنيكوتين (nicotine) والسترايكينين (strychnine) وغيرها الكثير. والطعم المر غير مستساغ من قبل البشر وهذا يلزم لتجنب أكل المواد التي تحتوي على مثل هذه المركبات حيث أن معظمها تعتبر مواد سامة وقد تضر بالجسم ولكن قد يعتاد بعض الناس على تناول بعض الأطعمة والأشربة ذات الطعم المر كالقهوة والدخان. أما الطعم اللحومي (umami taste) فقد تم اكتشافه حديثا ولم يكن معروفا لدى الأولين وتثار مستقبلاته التي هي أيضا من نوع المستقبلات المرتبطة ببروتين جي من قبل بعض أنواع الأحماض الأمينية (amino acids) وهي الوحدات الأساسية للبروتينات وخاصة حامض الجلوتاميك (glutamic acid). إن الطعم اللحومي طعم مستساغ جدا من قبل البشر كما هو الحال مع الطعم الحلو ووجود مستقبلات لمثل هذا الطعم ضروري جدا لكي يأخذ الإنسان كفايته من المواد البروتينية الضرورية لبناء خلايا الجسم.
وعلى الرغم من أن كل برعم من براعم الذوق المنتشرة على جميع سطح اللسان تحتوي على مستقبلات جميع أنواع الطعوم إلا أنه قد وجد أن بعض مناطق اللسان أكثر حساسية لأنواع معين منها. فمنطقة الطعم الحلو تقع على مقدمة أو رأس اللسان ومنطقة الطعم المالح تقع على جوانب السطح الأمامي للسان ومنطقة الطعم الحامض تقع على جوانب السطح الخلفي للسان وأما منطقة الطعم المر فتقع على الجزء الخلفي من ظهر اللسان أما الطعم اللحومي فلم يتم تحديد منطقة خاصة به. وتتفاوت مستقبلات التذوق المختلفة تفاوتا كبيرا في شدة حساسيتها والحساسية هي أقل تركيز للمادة المعنية يمكنه أن يثير مستقبلات التذوق ويستطيع الإنسان الإحساس بطعم هذه المادة عند ذوبانها في اللعاب. فعلى سبيل المثال فإن حساسية مستقبلات الحلاوة لسكر السكروز هي 10 مللي مول لكل لتر وقد استخدم السكروز كمرجع لقياس درجة حلاوة بقية المواد وأعطي له الرقم واحد كمعامل للحلاوة (sweetness index). أما مستقبلات المرارة فهي أشد المستقبلات حساسية حيث تبلغ حساسيتها لمادة الكواينين (quinine) 8 ميكرو مول لكل لتر وقد استخدمت هذه المادة كمرجع لقياس درجة مرارة بقية المواد وتعتبر مادة الديناتونيوم (denatonium) الصناعية أشد المواد مرارة حيث يبلغ معامل مرارتها 1000 أي أنها تزيد بألف مرة عن الكواينين. أما مستقبلات الملوحة فتبلغ حساسيتها لملح الطعام 35 مللي مول لكل لتر بينما تبلغ حساسية مستقبلات الحموضة لحامض الهيدروكلوريك (hydrochloric acid) 2 مللي مول لكل لتر.
ويتم نقل إحساسات التذوق (taste sensations) إلى مركز الشم في الدماغ باستخدام ألياف عصبية موزعة على ثلاثة أعصاب قحفية (cranial nerves) وهي العصب القحفي السابع أو ما يسمى بالعصب الوجهي (facial nerve) وهو ينقل إشارات خلايا التذوق الموجودة في الثلثين الأماميين من سطح اللسان. ويتم نقل الإشارات من الثلث الخلفي من سطح اللسان من خلال العصب القحفي التاسع أو ما يسمى بالعصب اللساني البلعومي (glossopharyngeal nerve). أما الإشارات التي تنتجها بقية خلايا التذوق والموزعة في الحلق وجوانب الفم والحنك فيتم نقلها من خلال العصب القحفي العاشر أو ما يسمى بالعصب الحائر (vagus nerve). وتنتهي محاور عصبونات التذوق الأولية الموجودة في هذه الأعصاب الثلاثة في نواة السبيل المفرد (nucleus tractus solitarius) الموجودة في البصلة السيسيائية في جذع الدماغ (brain stem). ومن هذه النواة تنشأ ألياف عصبونات التذوق الثانوية والتي تنتهي في النواة البطنية الخلفية الانسية للمهاد (medial part of the ventral thalamus) ومنها تنشأ ألياف عصبونات التذوق الثالثة والتي تنتهي في منطقة التذوق الأولية (primary gustatory region) الواقع في التلفيف خلف المركزي في قشرة الفص الجداري المخي (temporal lobe). وترتبط منطقة التذوق الأولية بمناطق مختلفة من الدماغ والتي تنتج ردود فعل مختلفة لمختلف أنواع الأطعمة فالطعام المر يتم لفظه من الفم مباشرة أما الأطعمة المستساغة كالحلوة واللحمية فتثير إفراز اللعاب في الفم. ويتم إثارة اللعاب من قبل النواتين اللعابيتين العلوية والسفلية الموجودة في جذع الدماغ والتي ترسل إشارات عصبية حركية تؤدي لإفراز اللعاب من الغدد اللعابية الموجودة تحت الفك وتحت اللسان والغدة النكفية.
إن أهمية حاسة التذوق عند الإنسان وكذلك عند كثير من الكائنات تفوق بكثير أهمية حاسة الشم حيث أن حياته قد تكون مهددة في حالة غيابها. فقد يشرب الإنسان الماء المالح أو الكاز أو بعض السوائل الأخرى التي لا لون لها على أنها ماء عذبا مما يؤدي إلى هلاكه. وقد يأكل الإنسان الأطعمة الفاسدة أو النباتات السامة دون أن يحس بحموضتها أو مرارتها فيصاب بالتسمم الذي يؤدي به إلى الموت. وعلى الرغم من أن مستفبلات التذوق يمكنها الإحساس بخمسة أنواع رئيسية من المذاقات وهي الإحساس بالحلاوة والملوحة والحموضة والمرارة واللحومية إلا أن الدماغ يقوم بمعالجة المعلومات التي ترسلها مستقبلات التذوق المختلفة عبر الأعصاب المتصلة بها ليعطي عدد لا يحصى من المذاقات والنكهات التي نتذوقها عند أكل وشرب مختلف أنواع الأطعمة والأشربة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يستطيع التفريق بين طعم آلاف الأنواع من الفواكه والخضراوات وبذور وزيوت النباتات ولحوم وألبان الحيوانات بل له القدرة على التميز بين طعم ثمار النوع الواحد من النباتات كما نرى عند تفريقنا بين طعم مئات الأنواع من التمور أو التين والعنب والتفاح والبرتقال وغيرها. وبهذه الحاسة العجيبة نجد أن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على طعام واحد وذلك على عكس بقية الحيوانات التي لا تمل من أكل نفس النوع من الطعام طوال عمرها فهذه الحيوانات تأكل لتؤمن أجسمها بالمواد العضوية والطاقة التي تلزمها بينما يأكل الإنسان وهدفه الأول الاستمتاع بالطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه ولا يلقي بالا في الغالب للفائدة التي سيعود بها هذا الطعام والشراب على جسمه.