أ.د. عصام سليمان الموسى
يا قـــدس
في عيد الميلاد في السنة الماضية كانت عملية الكرك الإرهابية قد ألقت بظلالها السوداء على قلوب الأردنيين فأعلن المسيحيون اقتصار الاحتفال على الشعائر الدينية تضامنا مع شهداء الوطن والأردنيين الذين هزتهم الفاجعة بأبناء غرر بهم فحملوا السلاح في وجه اخوتهم وأردوهم صرعى. وما ان اعلن المسيحيون ذلك حتى هب عدد من الشبان المسلمين وذهبوا الى كنيسة الكرك يحتفلون مع اخوتهم المسيحيين بقداس العيد. وكانت بادرة تعبر عن مشاعر الأخوة الصادقة التي ميزت الأردنيين منذ القدم.
واستذكرت بهذه المناسبة مسلمي قريتنا (الرفيد) حين صاموا وأفطروا في شهر رمضان ربما في أربعينيات القرن الماضي على جرس كنيسة الرفيد بسبب مرض إمام المسجد؛ بل ان خال والدي الخوري يوسف الناصر، لهما الرحمة، كان يعرف بخوري العبيدات. كانت وشائج المحبة والأخوة الصادقة هي الرابط الوثيق ولا زالت.
ويأتي عيد الميلاد الحالي والقدس تتشح بالسواد كما قلوب العرب بسبب فعلة الرئيس الأميركي النكراء مثل ما كانت بعد حرب حزيران عام 1967، حين وقعت في الأسر، ، فتنزف معها قلوب المسيحيين والمسلمين. كأنه قدر عيد الميلاد في ايامنا السوداء ان يأتي متشحا بالحزن هذا العام مثل العام الماضي، فلا يشعر المسيحيون ببهجة العيد، وفي قلوبهم حزن على القدس و شهداء فلسطين وجرحاها.
وهي مناسبة نستذكر فيها حرب عام 1948: ففي عام 1973 وضع والدنا المؤرخ كتابه (يا قدس) الذي هو ترجمة مختصرة لكتاب الأنجليزي (لآري كولينز) والفرنسي (دومينيك لابيير) لحرب عام 1948 ومعارك القدس التي انتهت باحتفاظ الجيش العربي بمدينة القدس عربية.
يقول والدي في مقدمته للكتاب: «كانت القدس بالنسبة للطرفين قطب الرحى ومحور الدائرة، كانت هدف الأهداف وغاية الغايات. ودارت معركة القدس في ميدانين: المدينة ذاتها بين المنازل والأحياء، وميدان باب الواد حيث الشريان الحيوي للمدينة بالنسبة للغزاة».
ورغم ان الكتاب «يتعاطف عموما مع باطل الإسرائيليين أكثر مما يتعاطف مع حق العرب»
إلا انه من جهة أخرى يعطي «جنود الجيش الأردني حقهم الذي استأهلوه بوقفاتهم الصابرة وهجماتهم الباسلة، سواء في القدس او في باب الواد. وهو يلقي الأضواء وبخاصة على اثنين من قادتهم هما حابس المجالي في باب الواد وعبدالله التل في مدينة القدس. ويمضي الكتاب في سرد دور الجيش الأردني الى حد القول ان الهزيمة التي ألحقها حابس المجالي بالقوات الاسرائيلية المهاجمة كانت أسوأ هزيمة عرفتها قوة اسرائيلية في الحروب الثلاثة التي خاضها اليهود مع العرب من عام 1948 الى 1967».
كان هذا الكتاب حافزا لوالدنا لكي يضع كتابه عن ملحمة البطولة التي خاضها الجيش العربي الأردني، فأصدر كتابه (أيام لا تنسى: الأردن في حرب 1948)، والذي صدر منذئذ في أربع طبعات، ثلاث منها عن الديوان الملكي الهاشمي. كان والدنا يقف بالمرصاد للأجنبي الذي يلوي الحقائق، فيعمد الى تصحيحها، تماما كما فعل مع لورنس، فأصدر كتابه الأشهر(لورنس والعرب: وجهة نظر عربية)، فصدر بالعربية، ثم ترجمه الدكتور البرت بطرس للإنجليزية فصدر في بريطانيا وأميركا عن دار أوكسفورد في ثلاث طبعات، ثم ترجم للفرنسية واليابانية. وكان افضل رد على ادعاءات لورنس. وكان من حسن الحظ ان طبعته وزارة الثقافة في سلسلة مكتبة الأسرة، واختفت نسخه الثلاثة آلاف بسرعة دليل اقبال الأردنيين عليه.
في ليلة الميلاد نستذكر القدس العربية «غاية الغايات» – كما قال والدنا المؤرخ – التي ستظل عربية دوما، مهما حاول الغاصبون، ما دام هناك ايمان عروبي بذلك، وما دام جلالة الملك عبدالله الثاني، مثل جده عبدالله الأول، حاميا للأماكن المقدسة في المدينة التي تضم رفات جده العظيم الحسين بن علي مفجر الثورة العربية الكبرى.
هذه الكلمات اقولها لإخوتنا في فلسطين، في نضالهم اليومي ضد الغاصب، وقد رأينا حتى أطفال فلسطين يفتحون صدورهم بمواجهة جنود العدو، ويتحدونهم ان يطلقوا النار.. ويقولون لهم فلسطين عربية..وسنبقى ملتصقين بالأرض..
وأعجب من غاصب صهيوني يرى هذا التصميم ويبقى محتلا لفلسطين، فكما ان الحجر الفلسطيني فشخهم في الانتفاضة، فها هم الأطفال يهتفون لهم: ارحلوا..ارحلوا..وسيرحلون..أجل سيرحلون. فهم لا يعرفون مدى صلابة العربي حين تحين الساعة.. ومعارك باب الواد يا اسرائيلي خير ذكرى.
سنحتفل بليلة الميلاد ببطولة اخوتنا في فلسطين، ونرفع الصلوات لله لكي يشد من أزرهم، فنحن في الأردن معكم، نتألم لمصابكم، ونفرح لفرحكم، ويوم الحرية قريب.