فرشة العمّ فلاح؛ ما زالت في ذاكرتي؛ بل إنها لا تغادرني كلّما ناقشتُ معنى الوطن. صادفتُ العم فلاح قبل أكثر من ربع قرن يحمل فرشته على ظهره كالرحّالة؛ لا تعيق حركته ولا تثقل ظهره. فتجرأتُ ذات جلسة وسألته: لِمَ تحمل فرشتك معك حيث ذهبت مع أن لديك بيتاً وأسرةً؟ . ياااه؛ ما أجمل ضحكته التي أطلقها حينها وهو يقول لي: إنها وطني الذي أتمدّد عليه والذي لا أسمح لأحد بالعبث فيه ؛ هذه الفرشة تتحمل ظهري في الليل وظهري يحملها ويتحمّلها في النهار.!
حينما نظر في عينيّ بعد أن أنهى كلامه؛ قرأ فيهما بأنني أستغرب كلامه وبالأدق إنني غير مقتنع. فأطلق ضحكته الثانية الأجمل من الأولى ولكنه سرعان ما كتمها وقال بصوت متهدّج وكومة من الدموع تتشكّل في محجر عينيه: يا بني؛ أنا وجيلي ممن يجلسون وينامون على الأرض؛ وليس مثل جيلكم الذي يحبّ السرير والأريكة؛ لذا تجد فرشتي دائماً تتخذ مكاناً واحداً في البيت؛ يصبح مع الأيام وطناً حقيقياً. حتى أطفالك ينظرون إلى فرشتك ومكانها بهيبةٍ ووقار. ويسارعون في غيابك للمسها والتبرّك منها و تقليدك بالجلوس عليها ليشعروا بأنهم أنت. فإذا اهتزّت الفرشة اهتزّ المكان ومعه تهتزّ العائلة. يا بنيّ؛ من يعتدي على فرشتك اليوم سيعتدي عليك غداً لأنه نجح في هزّك والاعتداء على هيبة مكانك. يا بني؛ إذا ضاقت عليك فاحمل فرشتك على ظهرك واجعلها وطناً كي لا يُصاب الذين تحبهم ويحبّونك بأذى الانهيار. يا بني؛ إيّاكَ أن تستبدل فرشتك بسرير أو أريكة.! وأغرق العم فلاح نفسه في بكاء مرّ.
تذكرت علاقة العم فلاح بالفرشة الآن؛ والحظر والكورونا جعلا كلّ الناس تأوي إلى فرشاتهم ليل نهار. صارت جزءاً من المكان. صارت أوطاناً صغيرة لا يطيق أحدنا أن يقترب أحدنا من فرشته؛ وإن اقترب تجد الصرخة التلقائية تخرج من الأعماق: ولَكْ حكيتلك ألف مرّة ما تلمس فرشتي..
رحم الله العمّ فلاح؛ علّمني درس الفرشة وغاب بلا أثر..