فداء طه
أعطى سعيد الصالحي في روايته (ظل الغراب) تمثيلاً أدبياً للفضاء الروائي، وصيغ زمانية للفعل لشخصياته، وترتيب ميقاتي.
إن الرواية فن زماني في مقابل الفنون المكانية كالرسم والنحت. ولهذا فإن الفرضية العامة هي أن الظروف الزمكانية للسرد اللفظي ليست مهمة كالإطار الزمني والتسلسل الميقاتي لكن هناك رأي آخر يرى أن الزمان والمكان في النصوص السردية متعالقان، خاصة أن المكان متخيل في الرواية على عكس باقي الفنون، وعلى سبيل المثال فن السينما أو الفن التشكيلي، هي نصوص بصرية يمكن عرضها ويشاهده المتلقى، أما السرد فهو مساحة كبيرة للتخييل، وفضاء مفتوح للخيال، وما بين البصري والمخيال، تقع رواية (ظل الغراب) في مساحة مختلطة، فالزمان هو الظل، والغراب يشي بالمكان، لهذا كان عنوان الرواية عتبة النص٠
على الرغم من كون الرواية تنتمي إلى الفنتازيا وتتماهى مع حكايات (ألف ليلة وليلة) إلا أن الكاتب قد قام بإسقاطات عديدة سياسية واجتماعية وفكرية على واقعنا العربي، وهكذا ربط الكاتب بكل سلاسة بين الواقع المعاش والأحداث المتخيلة.
فكرة الرواية تستحق التأمل والتدبر، فهي تحاكي حكايات شهرزاد للمك شهريار، ولعل (ظل الغراب) تصلح أن تكون الحكاية الثانية بعد الألف لحكايات (ألف ليلة وليلة). (ظل الغراب) قصة سندباد جديد لا اسم له ولكن أطلق عليه لقب “الطيب” يسافر هذا السندباد إلى بنغلادش حيث يلتقي بغراب يكلفه بمهمة إعادة إخفاء صندوق يحوي أسرارا لا يجب أن تظهر إلا بعد حين. هذا الغراب أيضا يشبه إلى حد بعيد ياسمينة صديقة السندباد. كما أن الكاتب لا يتورع عن ذكر السندباد وياسمينة في روايته، وهذا تناص جلي وإحالة إلى قصة السندباد كما وردت في حكايات (ألف ليلة وليلة).
(ظل الغراب) رواية تطرقت لموضوع أجزم بأنه جديد، حيث دافعت الرواية عن الغربان وفندت كل ما ألصق بهذا الطائر من تطيّر وتشاؤم، وبين الكاتب أن هذه المعتقدات خاطئة ولا أساس لها من الصحة، لا وبل تتعارض مع المنطق والعقل والدين. فطائر الغراب من الطيور الذكية التي تعيش في أسراب ولها ممارسات ذكية وقوانين تحكمهم كما للبشر قوانينهم. كما أن الغراب هو الذي علم قابيل دفن أخاه هابيل بحسب ما جاء في القرآن الكريم. وهذا اقتراب بطريقة أو بأخرى مما يقوم به الأدب الإيكولوجي/ البيئي حيث يدعو إلى حب واحترام البيئة والمحافظة عليها من أي ضرر. وهذا الحب للغربان والحرص على إطعامها كان له شكل آخر في الرواية تمثل في الزيارة المتكررة للمقبرة وإطعام الكلاب فيها حتى أنه أصبح بين الطيب والكلاب صداقة قوية قامت الكلاب على إثرها بحماية الطيب ومهاجمة من حاول الاعتداء عليه من رجال بدر الخير. مرة أخرى نرى بصمات الأدب البيئي في الرواية تظهر عبر انعقاد صداقة بين الإنسان: الطيب، والحيوان: الغربان والكلاب.
كما أن الزمن الذي تدور به الرواية هو زمن فايروس كورونا الذي قيل بأن انتشاره كان بسبب بشري وأنه فايروس حضر مخبريا ثم فقدت السيطرة عليه فانتشر في أرجاء العالم. والحديث عن الأوبئة والجوائح والتحذير منها هو من اختصاص الأدب البيئي أيضا. وإذا سمح لنا أن نحمل صندوق القشيري ولفافته معنى رمزيا لقلنا أن هذا الصندوق كان من الممكن أن يحتوي على علاج لهذه الجائحة أو لجوائح أكبر قد تصيب البشرية في المستقبل.
هذا وقد تطرقت الرواية إلى فكرة التدين الحقيقي والمزيف الذي ينتفع مدعي الدين منه، وكان هذا عبر شخصية بدر الخير الذي ما هو إلا رئيس عصابة متخفي بعباءة الدين، والدين منه براء.
(ظل الغراب) رواية تقص علينا تجربة شخصية عاشها الكاتب سعيد الصالحي جزء منها حقيقي وأجزاء أخرى من نسج الخيال. هي قصة خرجت من رحم الحجر الصحي الذي رافق جائحة كورونا التي غزت العالم. إنها قصة الابتعاد عن الأهل والوطن، قصة الوحدة والعزلة، قصة الفراغ والساعات الطوال.
.
أما فيما يخص الملاحظات على الرواية فيمكن القول بأن الرواية بعد الصفحة المئة قد دخلت في طور الإطالة وكان من الممكن جدا اختصار الأحداث التي تركزت على استجوابات الطيب من قبل بدر الخير وابن الداسم.
على الرغم من كون الرواية رواية فنتازية إلا أن بها مجموعة من الأحداث الغير المقنعة. يتقبل القارئ بكل رحابة صدر كون الغراب يتكلم، ولكنه يجد فكرة إخفاء صندوق خشبي في الماء غير منطقية أبدا لأن الماء يتلف الخشب والورق، فلو كان إخفاء الصندوق تحت التراب لكان مقنعا أكثر، أو لو قيل أن الصندوق سحري لكانت فكرة إخفاء الصندوق في الماء أكثر إقناعا.
هذا من جانب، ومن جانب آخر طلب الغراب من الطيب إخراج الصندوق من أحد القبور ورميه في النهر، فكيف دخل الصندوق إلى القبر وقد كان ملقى في النهر من قبل؟! من الذي أدخل الصندوق إلى القبر؟!
وبالعود إلى المهمة التي كلف الغراب بها الطيب، لقد طلب الغراب من الطيب أن يخرج الصندوق من المقبرة وأن يرميه في النهر حتى لا يخرج الصندوق إلى الناس إلا بعد أن يأتي المسيح عليه السلام في آخر الزمان. فهل قام الطيب بتنفيذ ما طلب الغراب منه؟ الجواب لا، لقد ألقى الطيب بالصندوق في النهر بعد أن صادر لفافة القشيري الأصلية المرافقة للكتب، وبعد أن وضع مع الكتب لفافة محرفة من صنع يديه! وهذا يعني أنه في آخر الزمان لن يستفيد أحدا من الصندوق لأنه تم تحريف المكتوب في اللفافة!
وقد احتفظ الطيب باللفافة الأصلية وسافر بها إلى القاهرة وعندما خشي من احتمالية إلقاء القبض عليه بتهمة تهريب الآثار، رمى اللفافة في النهر، فجاءه غراب وكافأه بأن ألقى عليه سوارا أحمر اللون كان غراب دكا قد وهبه له وضاع منه هنالك. إن مصادرة اللفافة الأصلية ووضع لفافة مزورة ومحرفة في صندوق الكتب يؤكد من جديد أن الطيب لم ينفذ المهمة التي كلفه الغراب بها، فالمهمة كانت تقتضي رمي الصندوق بكل محتوياته الأصلية في النهر في دكا، وهذا لم يتم، فكيف يكافؤ الطيب على عدم إنجاز المهمة بمنحه سوارا أحمرا؟
هذا وقد شوق الكاتب القارئ كثيرا للغز الصندوق، وللغز اللفافة القشيرية ولكنه لم يكشف للقارئ هذا السر، وهكذا انتهت الرواية بخيبة أمل القارئ الذي انتظر طويلا لمعرفة سر لن ينكشف أبدا.
.
من المؤكد أن الصالحي كان قد تعمد ترك هذه الثغرات والثلمات سالفة الذكر في أحداث الرواية من باب السخرية تارة، ومن باب النقد للأعمال التراثية تارة أخرى. وهذا الحضور الدائم للوعي النقدي للتراث هو ما يجعل منه رواية وبطلاً روائياً في الحين نفسه٠ فرواية (ظل الغراب) فيها معاصر للحدث الذي يرويه، والبطل الروائي معاصر لتلقي خطابه٠ فهو يقطع باستمرار سيولة السرد ” الموضوعي” ليؤسس التواطؤ الوجداني مع القارئ الملسوع هو الآخر بهوى التراث. فالهاجس النهضوي الكامن وراء كتابة رواية (ظل الغراب) لا بد أن يكون كامناً أيضاً وراء قراءتها. فعلى هذا النحو وحده تتحوّل من محض حكاية إلى رواية.