أ. سعيد ذياب سليم
آخر السهارى
ما أشد حزن الشوارع حين تستقبل الليل وتخلو من المشاة و العربات و أصوات الباعة و يسكنها الصمت و الوحدة وتذرعها ريح الشمال الباردة، أنين المنبوذين و صخب السكارى و صدى خطوات بائعات الهوى.
انتصف ليل المدينة دون أن تدق الساعة فلا ساعة في المدينة ، أبراجها لا تحمل الساعات ، عادة ما يكون للمدينة ساحة يزينها برج ساعتها كما في القصص، أما مدينتنا فتخلو منها، ربما أنّا نخشى الوقت و مروره وربما لا نكترث له ، نشعر بوطأته نحتال عليه لكي يمضي بنا دون أن نلحظ مروره.
تسامرني الشوارع و الأزقة أسير معها حيث تسير، بائع الذرة يتململ من البرد يقف يقلّب عرانيس الذرة على جمرات خبا نارها داعيا إياي بصمت لكني أمضي حاثا الخطو و كأنني أهرب من فاجعة، مررت بإحدى دور السينما المهجورة مثل هذا الوقت كان يخرج روادها و حدقات أعينهم المتسعة تحتفظ باللقطات المثيرة لعل أحلامهم تحتفي بها .
ربما تناولوا وجبة خفيفة من هذا المطعم أو ذاك ثم مضوا و مضت بهم الأيام ..هلّا تعود ! تمسك الوحدة بتلابيب القلب تعصره كأنه يد طفل صغير في يد أمه – يا لحب الأمهات !.
تعتريني ارتعاشة خفيفة الليلة باردة تجذبني أضواء مطعم شعبي اعتدنا المرور به ، أدنو منه وأنظر خلال واجهته الزجاجية خلفها جلسنا في مثل هذه الليلة الباردة وربما على هذه المقاعد بعد أن شاهدنا فيلم “الجنة يمكنها الانتظار” “Heaven Can Wait” من إخراج وارن بيتي ، كنا فتية يهدهدنا إيقاع الزمن الهادئ ، انتظرت السماء أربعين سنة ثم اختارت أجملنا و أكثرنا تسامحا مع الحياة ، على روحه السلام.
رأيت أطيافهم على المقاعد تسمرت قدماي لحظات ثم لملمت ابتساماتي الحزينة و هربت من الذكرى تسرع بي خطواتي يضمني الليل وتدغدغ وجنتيّ أصابعه الباردة ينقلني من رصيف إلى آخر أصيخ السمع علني أجمع كلمات الأصدقاء و ضحكاتهم فالذكريات لا تموت يحتفظ بها الليل بين طيات ملابسه و يلقيها على مسامعنا و في أحلامنا عندما تجرحنا الحياة و تدمي قلوبنا.
تخونني عيناي تتداخل الصور و الأضواء و تختلط بالدموع، لا أميّز شيئا مما حولي أرى صورا مزدوجة هل أنا الذي يجري أم أن الدنيا تجري من حولي و أنا واقف أنتظر النهاية! هل أرى الواقع أم هو انعكاس لما يعتلج في قلبي؟ أحدق في الأشياء محاولا رفع جفنيّ وقد تهدلت ألمح الدرب و أسير فيه ببطء أخاف أن أسقط أرضا لم أعد أستطيع تقدير المسافات ولا الأبعاد ولا الواقع من الأوهام.
كلهم رحلوا لم يبق إلا الليل و الطرقات و الأماكن التي شهدت أحلام طفولتنا و أنا القابع في زاوية النسيان يجلس على طاولتي الضجر و تعب السنين أوزع ورق اللعب بيننا ثم أعيد جمعه و أوزعه من جديد .. ترى من يطفئ القنديل و يوصد البوابة فأنا آخر السهارى. أ.سعيد ذياب سليم