رمزي الغزوي
كنتُ أرجو أن تُلغى ظاهرة (الجلوة)، وتقلع كما نقلع شوكاً دامياً من حقل قمح، وألا تبقى هذه اللطخة البدائية تشوه وجه مجتمعنا وتزيد من آلامه. ولكن وثيقة ضبط هذه الظاهرة، والتي أعلن عنها وزير الداخلية نهاية الأسبوع الماضي تمثل خطوة هامة نحو ذلل الهدف المنشود، وهو الخلاص منها، وإلى الأبد.
لدينا مئات من حالات الجلوة المطبقة بكل وجع في أرجاء بلدنا. ولدينا الآلاف من المهجرين عن بيوتهم بسبب هذه العرف البالي الظالم، الذي لا يراعي معنى السكن في بيوت الحجر. وهذا يجعلنا نسأل: لماذا نبقي كل ذلك الدور ونحن دولة مدنية يحكمها دستور وتنظمها قوانين ولدينا جهاز قضائي مستقل؟.
سيقول قائل، إن الجلوة تبدو منطقية ومسوغة في ضوء بعض ممارسات حياتنا الراهنة. فنحن نملك ونعيش ذلك التوجه الفكري حتى في السياسة وظلالها ناهيك عن حياتنا الاجتماعية. وإلا ما معنى أن تنطلق مثلا مواكب الأفراح بألف سيارة أو أكثر، بعد أن يصبح واحد من العائلة وزيرا (وهو منصب سياسي، أو ما معنى أن تنصب خيام المؤازرة لكل من طلب في قضية فساد وكأنه أقوى من الدولة؟!. فمن يجني في المغنم عليه أن يدفع في المغرم.
أعتقد أن حرباً صغيرة قد لا تخلف ذلك العدد المهول من المهجرين. لكن عرفاً بالياً يفعل هذا وأكثر. فرغم أن حياتنا تغيرت، وصار لنا عنوان وجيران وهجرنا بيوت الشعر، إلا أن كل هذا يغدو هشيماً تذروه رياح الجلوة حين تفرضها عقليتنا.
علينا أن نتخيل كم طالباً غير مدرسته وأصدقاءه، وطقوس حياته، دون أي ذنب سوى أنه من (خمسة القاتل) أو عصبته أو عشيرته؟!، وكم موظفاً غير مكان وظيفته أو فقدها؟!. وكم مزارعاً ترك حقله وباع حلاله؟، رغم أن القاتل واحد ومعروف، وعليه أن يدفع ثمن جريمته وحده، بيد الدولة. لكن الثمن يدفعه الجميع، دون استثناء، حتى للوليد المقمط بالسرير، تمشياً مع قاعدة لا تزر وازرة وزر أخرى.
ولم يعد للجلوة ما يبررها، ففي زمن مضى كان يفرض على أهل القاتل الجلاء؛ ليلوذوا بعيداً عن أعين أهل القتيل؛ خوف الثأر، الذي لا يجلب إلا ثأراً آخر. واليوم ومع تطور المواصلات والاتصالات، هل من الصعوبة أن تجد من تريده بسهولة ويسر؟.
الوثقية المعلنة مهمة، ولكنها ليست الهدف المنشود. بل الهدف أن تلغى سائر المحاكمات غير القضائية.