اللواء محمد البداري
انجاز : (ها هو شرق الأردن ، ميراثنا ، حقول واسعة كالبحر ، فأدركت لماذا سمّى الرومان هذا الجزء من ارض إسرائيل ، أمن فلسطين ، فقد كان في ذلك العصر أهراء الشرق الأوسط ، واليوم وبالرغم من اهمال هذه المنطقة ينبت العشب بين الحجارة التي تغطي الحقول حتى اللانهاية ، عشب أخضر وطويل ومرغوب ، وبدت البلاد شبه مقفرة تماما ، ولا ترى على مدى المساحة الواسعة الممتدة سوى جمل او اطلال لبدوي ..) هكذا يصف مناحيم بيجن بلاد الأردن ، حين وصلها اول مرة عام 1942 قادما من بولندا عبر العراق ، وحين يقترب من نهر الأردن يقول انه رأى قليلا من الناس وبعض الحقول المزروعة بالقمح ، فترجل من السيارة للاستراحة وتقدم قليلا على العشب ليستنشق رائحة حقول وطنه!
وقبل ان يدلي بيجن بملاحظاته هذه ، بمائة عام ، كان هناك تشرتشل اخر ، يدلي بخطاب سنة 1840 في منزل زعيم الطائفة اليهودية في دمشق ، يقول فيه ( ان هذه السهول والاودية الجميلة التي يقطنها حاليا العرب الجوالون وتعاني من الخراب بسببهم بعد ان كانت مثالا للوفرة والرخاء وتملأ ارجاءها أغاني بنات صهيون ، ستعود لإسرائيل في ساعة قريبة ، فاقتراب الحضارة الغربية من هذه الأرض يمثل فجر نهضتها الجديدة ، فلتستعد الامة اليهودية نهضتهتا بين الأمم وليثبت احفاد المكابيين انهم مثل اسلافهم العظماء ) وبدا خطاب الكولونيل البريطاني تشارلز تشرتشل شبيها بخطاب نابليون عام 1799 ، لكنه كان يرى انه سيحقق ما عجز عن تحقيقه نابليون ، ففي عهده تمكن البريطانيون من احتلال عكا التي كانت قد استعصت على نابليون ، وتم طرد الجيش المصري من كل بلاد الشام ، وابقيت البلاد تحت سيطرة الرجل المريض ، لحين استكمال الاستعدادات لوفاته ، والتفاهم بين الورثة غير الشرعيين على اقتسام تركته الكبيرة.
فطوال القرن الأخير من عمر الإمبراطورية العثمانية المريضة ، تكثفت النشاطات الاستخباراتية البريطانية والفرنسية في المنطقة بشكل محموم ، ووافقت الحكومة العثمانية على فتح المزيد من القنصليات الأوروبية التي اتسعت نشاطاتها وتدخلاتها السافرة ، وكان المشروع الصهيوني حاضرا في كل تلك الأنشطة ، ولم تنفع تقارير صحيفة فلسطين التي كانت تتابع التغلغل الصهيوني في البلاد وتحذر منه ، قبل وعد بلفور بسنوات طويلة.
فمنذ القرن التاسع عشر ، تزايد نشاط القناصل البريطانيين، ومن بين أوراق كثيرة رسمية وشبه رسمية ، تبرز كتب القنصل البريطاني في القدس (جيمس فن ) الذي بعد ان انتهى من استطلاع كافة ارجاء فلسطين ، عبر النهر شرقا عام 1855 على رأس فريق من الرجال والنساء وقام باستطلاعات واسعة النطاق في الأردن ، فهو مسيحي صهيوني ، وطغت على كتاباته مسحة توراتية مكثفة.
لكن جيمس هذا ، لم ينكر وجود الناس في الأردن على الاطلاق ، كما انكر وجودهم مناحيم بيجن ، والشيخ عبد المنعم أبو زنط لاحقا ، فقد رأى رجالا ونساء واطفالا في انحاء شرق الأردن ، واقرّ مشكورا بوجود مدينتي السلط والكرك والكثير من القرى والأماكن التي لا تزال تحمل نفس الأسماء مثل المشقر وحسبان وماركا والشميساني وصولا الى جرش وصمّا ، وامعن النظر في السهول الخصبة والحقول الواسعة والغابات ، وقطعان المواشي والخيول ، ويصف نهر عمّون ، عمّون التي يعرف ان اسمها تحول الى فيلادلفيا ثم الى عمّان ، عمّان التي سيغني لها فارس عوض وغادة عباسي ، اخطر الأغاني واعذبها في عصرها الزاهر ، مثلما غنى الجنود لها ولعيون الأميرة بسمى والبنات ، في معركة الكرامة ، وهم يخضبون الاودية والسهول الجميلة بدمائهم.
ويصف جيمس بالتفصيل ، أحوال البلاد في ذلك الحين ، ويشير الى قوى النفوذ والسيطرة فيها ، ويشرح ظروف مقابلته للشيخ ذياب العدوان الذي يصفه بأنه رجل عظيم حاد النظرات كصقر متحفز للانقضاض ، وحين يصل جيمس الى أم قيس شمالا سيتجه مع فريقه الى منحنى نهر اليرموك ، وسيتذكر في ذلك المكان المعركة العظيمة التي حقق فيها خالد الشرس وابوعبيدة المتسامح النصر عام 627 ، حيث تقرر مصير فلسطين ، وانفتح طريق المسلمين الى القدس.
ولم ينسى جيمس في استطلاعاته وملاحظاته ، المرأة في شرقي الأردن ، فيصف نشاطها ولباسها الطويل الأسود ، وشعرها غير الممشط وشفاهها الخالية من احمر الشفاه ، ويقول (بالرغم من ذلك فان كل النساء يمشين بكبرياء All walking with dignity of step)
واذا كان المقال ، بطبيعته ليس بحثا ، فاننا نكتفي بهذه الإشارات الضرورية التي تثبت ان هذا التطرف التوراتي الذي بات يقود السلطة والمجتمع في إسرائيل حاليا ، ليس ابنا فكريا للحداثة الغربية التي قامت على فلسفة فصل الدين عن السياسة وموت الاله ، فهو في مرجعياته الفكرية منغلق جدا على رواياته الدينية العمياء ، وتدعمه اتجاهات مسيحية صهيونية ، وهو في حقيقته وطبيعته مشروع مركب ومعقد ، يحتوي في داخله أطماعا لا حدود لها ، ونلاحظ يوميا انه باتت لهذه الاتجاهات الصهيونية ذيول واتباع في العالم العربي ، و في فلسطين والأردن خصوصا ، وتقدم هذه الذيول نفس الطروحات الصهيونية المتطرفة ، و تفضحها بدل ان تخفيها اساليبها السطحية المتبعة لإخفاء الاهداف ، حيث يقع هؤلاء الذيول بكثير من الأخطاء المكررة الناتجة عن الاستعجال والتسرع ، و عدم القدرة على الإحاطة بكل ما يجب الإحاطة به من عوامل ومتغيرات مستقلة ومعترضة تفرزها حركة الواقع التي لا تتوقف..