د.منصور محمد الهزايمة
سأبقى أدعو إلى الحوار الذي يفضي -دائما وأبدا- إلى خفض منسوب التشنج بين الناس، بغض النظر عن مستوى الحوار-وطنيا أو إقليميا أو عالميا- أو أطرافه أو موضوعاته أو غاياته، لإنه بغياب هذا الحوار يعشعش الاحتقان في النفوس، لينفجر كراهيةً في وجه الجميع، لكنّ جلوسهم معا والتحاور فيما بينهم قد يجنبهم شتى الموبقات، ويخرجهم من النفق المظلم، ويجلي بينهم الكثير من سوء الظن، فالحوار -مطلقا- في أي مجتمع وفي أي مكان وزمان يعتبر عنوان صحة وعافية.
لا يسعى الحوار في رسالته الأخلاقية والإنسانية إلى نزع أو ادانة أو تصحيح الخلاف بين الناس، لكن مهمته الأساسية تكمن في عدم تحويل الاختلاف إلى خلاف، وبنفس الوقت يسعى لأن يجعل من التنوع والتعدد أساسا في صميم الحياة، ويعظّم شأن حرية الرأي، لكنه بالتأكيد لا يجب أن يخضع لاعتبارات من لا يؤمن به أو بقيمه أو غاياته وآدابه.
ربما كنت اليوم من فئة لم تعد قليلة، ممن يضعون أيديهم على قلوبهم، خوفا من أن ننجر في أوطاننا -لا قدر الله- إلى مزيدٍ مما لا يحمد عقباه، حيث أن ما يحدث اليوم من ارتفاع وتيرة المناكفات، والمهاترات، واشتداد السجال الكلامي بين الناس على مواقع التواصل -على غير هدى ولا بصيرة- لا يمكن التسليم به للمجادلين، أو المتنمرين، بفرض وجهات نظر بعينها، وما دام هذا السجال غير مثمر، فإن الدعوة إلى حوار وطني تقترن بأهداف وطنية نبيلة، وتنتظم البلاد في طولها وعرضها تبدو ملحة، ليدفع باتجاه تشخيص المشكلات الوطنية بصورة صحيحة، ومن ثم اتاحة الفرصة أمام التوصيات التي تقدم المصلحة العامة على المصالح الخاصة.
لم يعد غريبا أن نسمع ممن كنا نحسبهم في خانة الشعوب والأوطان، وكانوا على الدوام يسوقون أنفسهم بأنهم القابضون على الجمر، حديثهم بأنفسهم أنهم لم ينتموا إلّا إلى أهدافهم وأسرهم الخاصة، لذلك فإن الثقة بين الناس طُعنت في مقتل، فلم يعودوا مطمئنين إلى إدارة أو سياسة، ومن هنا فإن العمل على بناء الثقة من جديد بين الدولة بمؤسساتها المختلفة والمواطن، يعتبر غاية أساسية وقيمة عظيمة، فالثقة أساس العمل والبناء والتعاون في الحياة، مثلما أن الثلاث معا تصنع الثقة، والحوار وحده هو رافعة هذه الغاية.
قديما قال الشاعر العربي: ” لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق”، فما أن تضيق صدور الرجال، وتنبئ عن ذلك أخلاقهم، لا يعودون قادرين على الجلوس متجاورين أو حتى متقابلين على طاولة الحوار، لإدارة الأمور بالعقل والحكمة، حينها تخرج الأمور عن السيطرة، ويدلف المغرضون من أوسع الشقوق، كما تمهد الطريق لأصحاب النوايا السيئة، وتصبح بدائل الحوار أقرب للتداول، مما يؤسس لنزاعات مؤسفة، ولنا في شواهد الحاضر كما الماضي عبرة.
إن الحوار البنّاء يعتبر وسيلة وغاية في آن معا، فإن لم يستطع أن يقصم ظهر المشكلات بعصا سحرية، برزت له غايات أخرى سامية، لا تقل قيمةً وشاناً، منها؛ أن يرسّخ قيم التعدد والتنوع، وأن ينشر فضيلة التسامح بين الناس، ويعلي شأن الحرية المنظبطة ذاتيا، ويدعو لتداول الرؤى المتباينة على الطاولة نفسها ، والاغتناء والاعتناء بقيم ومفاهيم الأخر، ومد جسور الثقة والتواصل معه، وتقريب وجهات النظر كأساس لحل المشكلات، بحيث يصبح من الطبيعي أن نرى المختلفين يتجاورون أو يتقابلون على الطاولة نفسها، يتصافحون قبل الحوار، ويتعانقون بعده، ويسلموّن بأن اختلاف الآراء، وتنوّع الرؤى، لا يفسد للود قضية، فالجميع يسعى لنجاح الحوار بغرض تجنيب الأوطان الخضات العنيفة.
وردت لفظة الحوار أو مشتقاتها في القرأن الكريم ثلاث مرات فقط، في استدلالٍ على مراجعة الكلام بين طرفين والأخذ والرد فيه، أمّا الجدال ومشتقاته فقد جاء في 29 موضعاً، كان مذموما في 26 منها، ومحمودا فقط في ثلاثة، فالأصل فيه أنه مذموم إلّا ما قُيدّ منه بالحق والقول الحسن فنحن أمة تدعو للحوار وذم الجدال لأن الأول يهدئ النفوس والثاني يحقنها إلّا ما كان بشرطه كما في الأية الكريمة “وجادلهم بالتي هي أحسن”.
الدوحة – قطر