د.منصور محمد الهزايمة
لا اعرف لماذا تملكتني في الأسابيع القليلة الماضية رغبة عارمة في النبش في المذكرات أو الذكريات التي تؤرخ للمراحل التي مرّ بها الوطن العربي والأردني وعندما أبحث في مكنونات النفس عن مبررات هذا المذهب فقد أعدته غير جازم لمقارنة الأوضاع الحالية لما يمرّ به الأردن أو المنطقة بما مرّت به في العقود الغابرة امّا ما أجزم أنه الحّ علي في ذلك فهو ما يمثل الرواية الأردنية المفقودة في ما يتعلق بأحداث المنطقة العربية عامة وفي الأردن خاصة خلال عدة عقود مضت وقع فيها من الأحداث الجسام ما يوازي ما نحن فيه أو أشد كانت خلالها الرواية دائما بتوقيع خصوم الأردن أو منتقديه وما أكثرهم حينذاك.
أردنيا كان أهم ما صدر كمذكرات في تلك المرحلة هو كتاب مهنتي كملك وكنت قرأته صغيرا وعدت لقراءته من جديد فوجدت سردا للأحداث اتسم بما عرف عن الملك الراحل بالبعد عن الشخصنة ورفض دخول النظام أو الدولة الأردنية بمماحكات مع الأنظمة أو الخصوم.
ثم وجدتني اقرأ بنهم مذكرات “فلسطيني بل هوية” لاحد قادة فتح وهو صلاح خلف (أبو اياد) الذي اغتيل فيما بعد في تونس (1991) ووجدت رواية الاحداث تتسم بتعصب مذموم وطرح ضيق الأفق ينتصر لما كان يمثله آنذاك وإن انتقد بعض الممارسات الفظة لمنظمات (ما اكثرها) ادّعى أن فتح رفضتها لكن من المعلوم أن فتح كانت تدافع عنها وتحميها على سوء ما بدر منها وما دفعت به إلى صدام دموي.
من أهم المذكرات التي وقعت عليها عربيا كانت للسيد فاروق الشرع (نائب الرئيس حاليا والمعتزل منذ بدء الثورة السورية) وكتبها إبان توليه الشأن الخارجي السوري لعقدي الثمانينات والتسعينات وفصّل فيها عن تلك الحقبة لكن يؤخذ عليها أنها كانت انتقائية التركيز وابرزت دائما الموقف السوري وموقف الرئيس بقدر كبير من النرجسية التي لا تقع في الأخطاء خاصة في العلاقة مع العرب وانتهت بوفاة الأسد الأب (2000م) وما يهمنا دائما كيف تعاطت المذكرات مع الشأن الأردني.
في ظل غياب إعلام أردني منافس آنذاك ووجود إعلام عربي مضلل و منحاز تعرض الأردن لحملات تهويش وتشويه غيبت الحقيقة لكن لم تغيرّها نتج عنها أن الأردني لم يكن قادرا على المحاججة أو الدفاع عن المواقف الوطنية فضلا عن أنها أوقعت الأردن في عزلة عربية خانقة.
وبعد ثورة إعلامية لم نرى وجهة النظر الأردنية تنهض و تبرز بل تقوقعت في خندق ردة الفعل أو دفع التهمة وبقي الأردنيون من شهود تلك المرحلة غائبين أو مغيبين الا إذا اتيحت لهم فرصة المشاركة في برامج محددة الوجهة ويبدو أنه كان هناك اتجاها على أعلى مستوى في الدولة يفضل عدم طرح المذكرات وعدم الدخول في المهاترات ومن هنا فقد كان هناك رفض لكتابة بعضهم مذكراته بل ومنع بعضها بعدما كتبت.
في كثير من الأحداث التي مرت بها الأردن منذ النكبة (48) مرورا بالأوضاع الداخلية في الخمسينات والستينات وحرب الأيام الستة ومعركة الكرامة واحداث السبعين وحرب(73) وصولا إلى المشاريع الإقليمية اللاحقة كانت تبرز الرواية الأخرى وتغيب الرواية الأردنية تماما.
ولمّا بدات تتسرب الوثائق من جهات عدة وتغيرت الصورة الإعلامية خاصة الرسمية بدأت تتكشف المواقف وتنجلي الحقائق ليتبدى شيء من الإنصاف للأردن امّا بصحوة ضمير أو بإنكشاف المواقف وتعريتها دون أن يكون هناك دور أردني مؤثر في ذلك.
الأردن تعرض في العقود الماضية لكثير من الإرهاب وللتدخل في شأنه الداخلي بما يمكننا في الوقت الحالي تصور الصبر الملكي او الأردني عليه لكن سياسة الاعتدال والبعد عن التطرف وانتهاج سياسة الصبر والحكمة جعلت الأردن يكسب في كل المواقف لا بل أن الأخرين بمراجعاتهم اعترفوا بسوء تصرفهم وتقديراتهم وأنهم لم يكونوا يمتلكون الرؤية الواضحة فالتطرف والتجاوزات غير المسئولة جرت الأنظمة غير الراشدة وقتذاك الى جّر الامة الى مواجهات حتمية الفشل كما أن المنظمات الفلسطينية بتجاوزات خرقاء كادت تودي بالبلد والقضية على حد سواء في مهب الريح.
لقد ادرك الأردنيون والعرب أن نهج الاعتدال كان دائما أقوى من التطرف والتشدد وأصبح الاعتدال سر القوة والتميز لهذا الوطن ولذا يجدر توجيه الدعوة للجميع نظاما وحكومة وأجهزة أمنية وعشائر وحركة إسلامية أن تجعل من الاعتدال نهجا حياتيا يغلق الباب في وجه أهل الغلو والتشدد ففي السابق عانينا من تطرف الخارج وعلينا الآن أن ننقذ بلدنا وأنفسنا من تشددنا الداخلي ولنا في الأيام الخوالي العبرة عندما عبرنا فوق المصاعب بالحكمة والعدل والاعتدال.
الدوحة -قطر