سعيد الصالحي
كنت أجلس في مكتبي كما جرت العادة أتابع أعمالي اليومية، متنقلًا بين الهاتف والبريد الالكتروني وبعض الأوراق التي تحتاج إلى “خرابيش الجاجة” التي تسمى التوقيع، وكنت أستقبل زميلًا وأشيع آخرًا، وفجأة شعرت رغم إنشغالي بملل غريب، فتحت الشباك الذي يحد كرسي المكتب من الغرب، لأستقبل بعض النسمات المنعشة المعطرة بالضوضاء، لعلها تنعشني وتضفي بعضًا من الفوضى إلى أفكاري المرتبة وإن شئت الرتيبة، استنشقت ما تيسر من أبواق السيارات، وما لذ وطاب من عوادمها، فلم تجد نفعًا مع حالتي، فأغلقت الشباك وأعدت الستارة إلى ما كانت عليه، وقررت النزول للجلوس على أحد المقاعد الخشبية، التي تتواجد على مقربة من بنايتنا، فعلى ما يبدو أن مقعدًا على قارعة الطريق، وبعضًا من الضوضاء، ورشة من الكربون، ستساعدني على الإسترخاء، وعلى التخلص من الأفكار الحائرة، التي تخيم فوق سطح مكتبي، بعد أن طردت من رأس شخص آخر.
الطقس خريفي في الداخل والخارج، كان الهواء يتلاعب بأوراق الشجر، فتتساقط أمام المقعد الخشبي، وفي داخلي كانت تتأرجح الأفكار، جلست كقطعة خشب ملونة فوق المقعد، وبينما كنت أمارس هوايتي في عد السيارات، ومحاولة تمييز أنواعها، جلس إلى جواري رجل يعتمر قبعة كقبعات طياري الحرب العالمية الثانية، ويرتدي ملابسًا رثة لكنها نظيفة إلى حد ما، نظر إلي وارتسمت إبتسامة وديعة على محياه، وألقى علي السلام، وأنا رددت السلام إليه ككرة المضرب، هز رأسه وجلس بجانبي يتمتم ويعد السيارات، وكأن أكثر معرفة مني في أصول العد واكثر دراية أيضًا في تمييز السيارات، فعلى ما يبدو أنه يمارس جلسات الاستشفاء هذه منذ زمن بعيد، فهو صامت لا يتكلم مع أحد إلا مع نفسه، وهو مهذب لا يحدق في أحد من المارة، كذلك مواطن صالح لا يرمي أعقاب السجائر على الأرض، وكان خدومًا يرشد التائه بكل محبة، والأهم من كل هذا كان مفكرًا وربما مؤرخًا، يسجل بعض الأفكار والأحداث في دفتر مدرسي، كان يخرجه بين الحين والآخر من جيب معطفه العريض ليدون ما يرى أو يشعر، ثم يقفل الدفتر ويعود إلى عالم العد، عالم لا يختلف فيه سوى شكل المارة وعدد السيارات، فهل بالفعل غد العد يوم آخر؟ خلع الرجل قبعة الطيار ونكش شعره، ودعني وانتقل للجلوس على مقعد آخر.
حتى هذا الرجل له روتينه الخاص، فالروتين هو داء زماننا، وهو تمامًا كالخبز، نشتريه كل يوم وحتى إن كنا لسنا بحاجة إليه، عدت أدراجي نحو مكتبي، وحدثت أحد الزملاء عن آفة الروتين التي تعترينا جميعًا، وكان يستمع لي وهو يهز رأسه كأنه يدرك حالتي ويستوعبها تمامًا، فما كان من الزميل إلا أن أسند ظهره إلى المقعد، ووضع ساقًا على ساق، وأخبرني بأن لديه حل مجرّب وسحري وفعال للقضاء على الروتين، فتوسلت إليه بنظراتي بأن يسعفني بحلوله التي تفوق حلول الحكيم، نظر زميلي نحو “كرشي” الصغير وابتسم ابتسامة الواثق وقال : “الخبز هو المشكلة، والرياضة هي الحل”، ثم أردف بأنه منذ سنوات يمارس الرياضة ليتخلص من القلق، فهو يمشي في المدينة الرياضية، وله اشتراك في النادي الصحي، وقد توقف عن أكل الكربوهيدرات بكافة أشكالها، وخصوصًا الخبز الأبيض، وبدأ يهتم بنظام طعامه ونومه، وأنه استفاد كثيرًا منها من الناحية الصحية والجسمانية، وأن الرياضة قد أصبحت جزءً أساسيًا من حياته اليومية، وبأن كل حياته قد تغيرت، لقد كان فخورًا وهو يتحدث عن الرياضة والنظام الصحي، كأنه مخترع الرياضة الحديثة.
نظرت إلى كرش زميلي المتدلي، فعلى ما يبدو أنه قد اعتزل الرياضة منذ سنوات، وأشتاقت نفسه إلى الرغيف، فقلت في نفسي أنا رياضي بإمتياز، أحرق السعرات طوال النهار، فأنا أجري للييع أو لتحصيل النقود، وأقفز عن المطبات والمشاكل برشاقة، وأركض للحاق بموعد ما، وأمشي نحو المخبز وبائع الخضار، وأجيد الوثب الطويل فوق الحفر ومصارف المياه في الصيف والشتاء، وكذلك لم تمنعني الإصابات من مواصلة العمل، فأصبحت مدربًا للعديد من الأشخاص، فرياضة المثابرة تجري في دمائنا، ثم نظرت في وجه زميلي وقلت له: أنا لا أعرف الرياضة التي حدثتني عنها، ولكن بمقاييس رياضتي فنحن نستحق الفوز بكأس العالم.