د. سامي الرشيد
يبقى الفكر النهضوي توفيقيا بالتعريف كونه ينبغي النهوض بامة لديها تراث عريق تتجذر فيه وحاضر بائس يضغط عليها ترغب الانفلات منه،بينما تواجه عالما زاخرا بالوعود ترغب في اللحاق به ما يفرض عليها الجمع بين مكونات ثقافية تنتمي لأزمنة مختلفة .
لم يكن ديكارت ابو الفلسفة الغربية الحديثة استثناء من ذلك النزع التوفيقي بين وعي حديث وايمان موروث ،فكانت عقلانيته المثالية التي انطلقت من الله كمبدأ للوجود ،فيما ادعت انها تبحث عنه .
اذ لم يتصور الرجل امكانية المعرفة الا تأسيسا على الحقيقة الالهية ،ولذا كان الشك الديكارتي منهجيا لتأكيد يقين قائم وليس فلسفيا للبحث عن حقيقة مجهولة .
لكن ان اردنا العودة للزمان الابعد ونقارن بين زمانين ،النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد والنصف الاول من القرن الحادي والعشرين وبالرغم من المسافة الشاسعة بينهما الا انهما يشتركان في اثارة قضية محورية :هي قضية العلاقة بين المطلق والنسبي .
في الزمان الاول كانت الاثارة مردودة الى حركة فلسفية ،أطلق عليها اسم السوفسطائية ،وكان اسم سوفيست يدل في الاصل على المعلم او مدير العلاقات العامة او الخطيب او الفيلسوف .
ثم لحقه التحقير في عهد افلاطون عندما اتهم السوفسطائيين بانهم مجادلون مغالطون ومتاجرون بالعلم .
اما زعيم السوفسطائيين بروتاغورس فانه يقول :ان الانسان مقياس الاشياء جميعا ،ويعني بها ان معرفة الانسان نسبية ،فما تقول عنه انه صادق يقول غيرك عنه انه كاذب ،وبالتالي تبطل الحقيقة المطلقة لتحل محلها حقائق نسبية ومتعددة ،الامر الذي من شأنه ان يفضي الى ان يعيش المجتمع في حالة فوضى ،وفي هذا المعنى وبسببه حكم على بروتاغورس بالاعدام ولكنه هرب .
ثم جاء افلاطون وكان على نقيض من بروتاغورس ،اذ وضع الحقيقة المطلقة في الصدارة ،ومن ثم توارت الحقيقة النسبية اذ قال عنها انها ضرب من الخيال .
مع ذلك ظل الصراع بين المطلق والنسبي خفيا تارة وظاهرا تارة اخرى مما يدل على انه صراع محوري في مسار الفكر الفلسفي .
بالرغم من ان المعنيين متناقضان فانهما متداخلان وهذه علاقة ديالكتيكية قد تنتهي في نهاية المطاف اما الى حذف احد الطرفين واما الى الابقاء عليها فتظل قائمة بلا نهاية .
ان مصطلح النسبية ينطوي على اغراء دائم وكاسح وقابل للقبول او الرفض وهو في ذلك كله يذكرك بسؤال بروتاغورس ما الحقيقة؟
في رد الفيلسوف الالماني المشهور نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر بان الحقيقة وهم !!
أما ابن رشد فان قيمته تكمن في انه بامكان ردم الهوة بين العالم الاسلامي والعالم الغربي ،وكان له الفضل تأسيس تيار الرشدية اللاتينية التي ادت الى اخراج اوروبا من العصور المظلمة ،اذ اجهز هذا التيار على الدعوة القائلة بابطال اعمال العقل ومن ثم مهد الطريق لمشروعية النظريات العلمية بوجه عام ونظرية دوران الارض حول الشمس بوجه خاص .
لقد استفاد الاوروبيون الاستفادة الجلى من علماء وفلاسفة العرب في الاندلس والجامعات آنذاك وطبقوها لديهم وطوروها .
المطلق هو عكس النسبي ويعني التام المتعري عن كل قيد او حصر او استثناء او شرط والخالص من كل تعين او تحديد الموجود في ذاته وبذاته واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى ان تجلى فيهما .
المطلق عادة يتسم بالثبات والعالمية ،فهو لايرتبط بارض معينة ولا بشعب معين ولا بظروف وملابسات معينه ،والمطلق مرادف للقبلي والحقائق المطلقة هي الحقائق القبلية التي لا يستمدها العقل من الاحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الاول وهو اساسها النهائي ،ويمكن وصف الهة فقط بانه المطلق ،ويشار اليه احيانا بانه المدلول المتجاوز اي انه المدلول الذي لا يمكن ان ينسب لغيره فهو يتجاوز كل شئ .
لقد عرف هيجل المطلق بانه الروح ،ويقال روح العصر اي جوهر العصر ومطلقه وروح الامة جوهرها ومطلقها ،وتحقق المطلق في التاريخ بأنه اتحاد الاضداد والانسجام بينها والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الاضداد وفروع المعرفة ،وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدس والزمني في وحدة وجود كاملة .
أما النسبي فانه ينسب لغيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعين الا مقرونا به وهو عكس المطلق وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغير بتغييرهما ولذا فالنسبي ليس بعالمي .
ان داخل المنظومات التي تدور في اطار المرجعية المتجاوزة ( مثل الرؤية التوحيدية ) لا ينقسم العالم بشكل حاد الى مطلق ونسبي ،فالمطلق النهائي الوحيد ( المطلق المطلق ) هو الأله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها ،اما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي .
الانسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي بداخله النزعة الربانية التي لايمكن ردها الى العالم المادي النسبي لذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها ان اراد .
الكائنات نسبية فهي تنسب لغيرها ومع هذا لها قيمة مطلقة ،ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرم الله الا بالحق لأنها مطلقة،ومن قتل نفسا بغير نفس كأنما قتل الناس جميعا .
ان اقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله ولذا فلها قيمتها المطلقة .
ان تداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما ،لذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر .
ننتقل من الآداب للعلوم ونتطلع على النظرية النسبية التي وضعها اينشتاين سنة 1905وسنة 1906،فقد غيرت الكثير من المفاهيم بما يتعلق بالمصطلحات الاساسية في الفيزياء،المكان والزمان والكتلة والطاقة والسرعة والتسارع ،حيث احدثت نقلة نوعية في الفيزياء النظرية وعلم الفلك في القرن العشرين .
عند نشرها لاول مرة عدلت الاسس النظرية لميكانيكا نيوتن التي كانت قائمة منذ 200سنة .
لقد قامت النظرية النسبية بتحويل مفهوم الحركة عند نيوتن ،حيث نصت ان كل الحركة نسبية ومفهوم الزمن تغير من كونه مطلق ويسير للامام دائما الى كونه نسبي وجعله بعدا رابعا يدمج مع الابعاد الثلاثة لمكانته وجعلت الزمان والمكان شيئا موحدا ،بعد ان كان يتعامل معهما كشيئين مختلفين وجعلت مفهوم الزمن يتوقف على سرعة الاجسام وتسارعها واصبحت سرعة الضوء معيارا للمقياس وتنسب اليه السرعات الاخرى كنسبية .
لقد اصبح تقلص وتمدد الزمن مفهوما اساسيا لفهم الكون وبذلك تغيرت كل الفيزياء الكلاسيكية حسب مفهوم نيوتن .
أدت مفاهيم النظرية النسبية الى ظهور علوم جديدة كليا مثل الفيزياء الفلكية وعلم الكون والفضاء بالاضافة لاستخدامها في تطبيقات حياتية كنظام الملاحة العالمي .
نعود للفكر النهضوي ونقول هل الراسمالية نظاما عالميا مطلق ام نسبي أهو تجميع لأنظمة الرأسمالية الوطنية ؟
ان النضالات السياسية والاجتماعية عليها لتكتسب الفعالية ان تجرى على المستوى الوطني ( وهو الحاسم لان الصراعات والتحالفات والحلول الوسط السياسية والاجتماعية تجري في هذا المجال ) والمستوى العالمي .
هذه كانت وجهة نظر كارل ماركس الذي نادى :يا بروليتاري جميع بلدان العالم اتحدوا ،وفي المثل الماوي يا بروليتاريين والشعوب المضطهدة اتحدوا .
ان الانسانية لن تستطيع السير بجدية في بناء بديل اشتراكي للرأسمالية ،الا اذا تغيرت الاوضاع في الغرب المتقدم .
هذا لايعني بالمرة انه على البلدان المتقدمة ان تنتظر هذه التغييرات ،وفي انتظارها تكتفي بالتكيف نسبيا مع الامكانات التي تقدمها العولمة الرأسمالية بل بالعكس فان الارجح هو انه بقدر الاوضاع في التغير في البلدان المتقدمة واضطرار مجتمعات الغرب للتواؤم معها بقدر ما سيدفع هذا ،هذه المجتمعات بدورها ان تتطور في الاتجاه المطلوب لتحقيق تقدم الانسانية بأسرها واذا لم يتحقق هذا فان الاسوأ هو البربرية وانتحار الحضارة الانسانية هو الاقرب للحدوث .
ان مجتمعات الغرب المتقدم وقوى القصور الذاتي الناتجة عن وضعها المركزي في النظام العالمي والاستقرار النسبي لهذه المجتمعات تفضل هذا القصور الذاتي ،وكذلك روح الانفتاح التي تتمتع بها وخيالها الخلاق،او بعبارة اخرى قدرتها على الاستجابة للتحديات ،بمبادرات تثير الدهشة وكثيرا ما يصعب التنبوء بها ،مع العلم ان الثقافة السياسية هي نتاج التاريخ بشكل مطلق على المدى الطويل لكل بلد .