رمزي الغزوي
أسرَّ لي صديق كاتب بأنه يخاف على مكتبته العريقة التي جمعها على مدار ستين سنة وأكثر. يخشى أن تذهب هذه النفائس خردة أو زبالة على جوانب الحاويات. وأسر بأنه ندم أن صرف جل عمره في القراءة والتأليف والبحث وأخذ الحياة على محمل الجد. ويسألني بحزن: ماذا قدمت لي مؤلفاتي؟ أنها حتى لم تطعمني خبزا أو بصلا.
تذكرت الجاحظ مع همس هذا الصديق. الجاحظ الذي مات بعد أن سقطت عليه مكتبته برفوفها وكتبها الثقال. ولكني لا أصدق أن موته كان صدفة، بل أجزم أنه كان انتحارا مبرمجا، بعد أن شعر في لحظة حانقة أن تعبه وسهره في القراءة والكتابة والتأليف والبحث لن يجد صدى في الآخرين.
وربما هو السبب ذاته ما دفع فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري أن يحرق كتبه، ضاناً بها على الناس، الذين لم يقدروا له جهوده. وكثر من فعلوا بكتبهم مثل ذلك، فيوسف بن أسباط، جعل كتبه في غار مجهول، ثم سدَّ بابه، أما أبو سليمان الداراني، فقد جمع كتبه الكثيرة في تنور وسجرها بالنيران، وقال: والله ما أحرقتك، حتى كدت أحترق بك. وتاج الأمة داود الطائي، طرح كتبه في البحر، كي لا تصل إلى الناس الذي لم يأخذوا بيده، وسفيان الثوري، مزقها وطيرها في الريح، وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا، بل من ها هنا ولم اكتب حرفاً!.
ولم تقنعني كثيراً حادثة أحد الخلفاء العباسيين، عندما أراد أن يشجع العلم والأدب، فأمر أن يمنح الكاتب الذي يؤلف كتاباً أو يترجمه، أن يمنح وزن هذا الكتاب ذهباً، لكنّ الذي راقنا جداً، أن أحد الانتهازيين فكر بالذهب أكثر؛ فنقش كتابه على صخرة ثقيلة، ودحرجها لبلاط الخليفة، كي يعطى بها ذهباً!.
لا أحلم أن يمنح الكاتب وزن كتابه ذهباً، بل أتوق لو أن الكتاب في بلادنا، يستطيعون أكل لقمة خبزهم من ريع كتبهم. ولكننا اكتفينا بندب حالنا ولم نعمد إلى ما من شأنه أن يعيد الكتاب إلى قيمته الحقيقية.
وبالطبع لا يعجبني أن ييأس الكاتب، أو أن يقدم كتبه وجهوده قرباناً للمجهول أو إلى تنور النيران، بحجة أن الآخرين لا يستحقون، وأن الزمن عاق. ولا يعجبني أن ييأس القراء أيضاً، ويؤلمني أن يتخلصوا من كتب قد تكون لهم الملاذ الأخير، في زمن يعزُّ فيه الصديق: إني أتمسك بخيط الأمل.