د.منيرة جرادات
في الوقت الذي بدأنا نشهد فيه حالة إيجابية من التحولات الرسمية والشعبية تجاه القضية الفلسطينية بعامة وتجاهما يحدث في غزة بخاصه، جاءت مقابلة جلالة الملكة رانيا العبدالله مع الإعلامية جوي ريد من محطة التلفزةالأمريكية (MSNBC) لتعزز هذه الحالة وتكسبها مزيداً من الزخم النوعي. وجلالة الملكة التي تعد واحدة من أبرز الشخصيات النسائية المؤثرة ليس على مستوى العالمين العربي والإسلامي فحسب بل على المستوى العالمي، إستطاعت في هذه المقابلة وبكل حنكة وذكاء وشجاعة أنتوصل العديد من الرسائل المؤثرة لتسريع وقف هذه الحرب غير المسبوقة في بشاعتها وعدم انسانيتها. لقداستطاعت جلالتها أن تعكس بجلاء حجم المأساه التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة وخاصةً من النساءوالأطفال. ومن جهة أخرى، استطاعت جلالتها أن تكشف و بكل موضوعية حجم الخذلان والقهر الذي يشعر بهالمدافعين عن حقوق الإنسان،والراصدين لحجم الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدوليومنتقدةً في الوقت ذاته وبجرأة غير معهودة عجز النظام العالمي عن إيقاف الإبادة الجماعية والمعاناة غير الإنسانيةالتي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في الضفة
الغربية وقطاع غزة.
ولكي تكون جلالتها مؤثرة في إيصال هذه الرسائل، فقد استخدمت عدداً من الاستراتيجيات الفاعلة في الإقناعوالتأثير. بدايةً، لقد استخدمت جلالتها بنجاح متميز الأرقام الموثقة والحقائق الموضوعية التي يفترض أن لا تترك أيمجالاً للشك لدى المشاهدين، حيث استشهدت بما أشار إليه العاملون في المجال الإنساني الذين أكدوا أنهم لميشاهدوا من قبل حجم العقاب الجماعي الذي يتعرض له الفلسطينيون في هذه الحرب، موضحةً أنه تم تهجيرمليون وسبعمائة الف شخص من منازلهم وتم استشهاد أكثر من 35,000 فلسطيني، 70% منهم من فئتي النساءوالأطفال. ومن باب المقارنة التاريخية ، اشارت جلالة الملكة الى انه لم يقتل هذا العدد من الاطفال وبهذا المعدلفي أي وقت أخر في التاريخ منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. وأشارت جلالتها إلى أن القصف الإسرائيلي دمر80% من المدارس، و 80% من المراكز الصحية، و60% من المنازل، وهي نسب لم نشهدها في أي حرب عرفهاالتاريخ الحديث. إن الأرقام والحقائق الموثقة التي استخدمتها جلالة الملكة بذكاء تعدّ واحدة من أنجع إستراتيجياتالإقناع والتأثيرالتي لا تترك أي
مجال للشك في مصداقية القضية المطروحة.
ومن الاستراتيجيات المتميزة الأخرى التي استخدمتها جلالتها بفاعلية وذكاء منقطعي النظير تلك المتعلقة بإجابةالأسئلة المطروحة بأسئلة أكثر عمقاً تحمل في ثناياها إجابات شافية ومؤثرة. فعلى سبيل المثال، عندما سئلتجلالتها: هل تعتقدين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مجرم حرب؟ لم تُجب
جلالتها بصورة مباشرة على هذا السؤال بل طرحت العديد من الأسئلة التي تقود المشاهد الى إستنتاج الإجابة حيثتساءلت جلالتها هنا: هل يمكن لأي مسؤول سياسي أن لا يكون مجرم حرب عندما يحرم الناس من أبسط حقوقهمالإنسانية وحاجاتهم الأساسية، ويستخدم التجويع كسلاح حرب، ويقوم بتهجير السكان من منازلهم، ويقتل أعداداًكبيرة منهم بصورة عشوائية؟! و في الرد على بعض الأسئلة المتعلقة بالشعور بخيبة الأمل والقهر في العالمينالعربي والإسلامي، طرحت جلالتها الأسئلة التالية: لماذا يطبق القانون بشكل إنتقائي؟ وماذا يعني تطبيق القانونالدولي بشكل إنتقائي؟ أين العدالة هنا؟ ولماذا حياتنا أقل قيمة؟ وهل نحن مهمون في هذا العالم؟ وتحديدا عندسؤال جلالتها عن الأمل في حل الدولتين، ردت على السؤال بطرح أسئلة توحي بأنه لا بديل عن حل الدولتين وذلكعندما تساءلت:
ما هو البديل بالنسبة للإسرائيلين والفلسطينين؟ هل سنستمر في الدوران بملفات من العنف؟ هل ستحتل إسرائيلفلسطين إلى الأبد؟ هل تتحمل إسرائيل أن تبقى دولة منبوذة، دولة فصل عنصري ؟ هل سيظل الفلسطينيون شعبمقهور؟ الحقيقة أن مثل هذه الأسئلة التي طرحتها جلالتها في الرد على الأسئلة التي وجهت لها تدعو المشاهد الىالتوقف والتفكير ملياً لأن إجابة الأسئلة بأسئلة عملية تحاكي العقل والمنطق والوجدان.
ومن الاستراتيجيات الأخرى التي برعت جلالة الملكة بتوظيفها خلال هذه المقابلة هي استراتيجية استخدام لغةالجمع (نحن) بدلاً من لغة الأنا (أنا) لكي يكون المشاهد جزءاً من القضية المطروحة يتفاعل معها و يتحملالمسؤولية تجاهها. ومن الأمثلة على ذلك إستخدام جلالتها لمصطلحات مثل:
ومن الأمثلة على ذلك إستخدام جلالتها لمصطلحات مثل: “كما تعلمون”،”ولكن بالنسبة للجميع”، “لقد رأينامؤخرا”، “ ونحن بالفعل متأخرين جدا”، “وكلما طال انتظارنا كلما كبرت وصمة العار على الضمير العالمي”، “فقدشعرنا بصدمة كبيرة”، “عندما يبدأ المجتمع الدولي”. إن استخدام مثل هذه المصطلحات خلال المقابلة يعدّ علىدرجة عالية من الفاعلية وذلك لأن جلالتها لا تريد مخاطبة المشاهدين على اعتبار أنها عربية مسلمة أو اردنية منأصول فلسطينية فقط بل على اعتبار أنها جزء من هذا العالم الذي يجب أن يتحمل فيه الجميع مسؤولياتهم وأنيعملوا معاً لمواجهة الظلم والكيل بمكيالين. وهذا يسهم في تعزيز التواصل الإنساني ويزيل الحواجز الإنسانيةوالفكرية، ويطرح القضية على اعتبار أنها ليست قضية عربية إسلامية أوفلسطينية بل هي في الواقع قضية إنسانيةلابد وأن يتم التعامل معها على هذا الأساس.
و ختاماً، يبدو جلياً أن جلالة الملكة أبدعت في هذه المقابلة ونجحت بصورة إستثنائية بلفت إنتباه العالم وبكلموضوعية وشجاعة وحنكة إلى حجم المأساة غير المسبوقة التي يتعرض لها الفلسطينيون بعامة وأهل غزة بخاصة. كما نجحت في توصيف حجم الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وخطورة التعامل معهذه الانتهاكات بمعاييرا مزدوجة. وهذا النجاح المقرون والمستند أساساً الى الجهود الدبلوماسية والإعلاميةالمتواصلة والحثيثة التي يبذلها جلالة الملك عبد الله الثاني منذ بدء الحرب على غزة ساهم ويسهم بصورة فاعلة فيالتأثير بالرأي العام العالمي وتحويله ليكون أكثر إتزاناً في تعامله مع القضية الفلسطينية بعامة ومع حرب الإبادة التييتعرض لها الفلسطينيون في غزة بخاصه.
د. منيرة جرادات