كان في بستان زيتون جدي زيتونتان مميزتان لا تشبهان غيرهما. الأولى ممشوقة القوام فارعة الطول أغصانها منسقة مثل أغينة مجبولة بموال جبلي. كان جدي يسميها العروس، ويراها تعدل 20 عروساً أو 50 حفيداً. وهي بركة البستان تعطي ما تعطيه 3 زيتونات عامرات وأكثر. وكان في البستان زيتونة معمّرة بساق متشققة، فيها تجويف يتسع لرجلين سمينين وكان بالكاد يستطيع أن يطوق خصرها 7 أطفال بأذرع متسلسلة. كانت هذه هي “المهراس”. وهو اسم حركي نطلقه على كل زيتونة ضخمة هرمة. العروس ماتت جفافاً أو كمداً في السنة التي تلت رحيل جدي. فالأشجار أرواح قد تلحقت بأهلها. فيما جنح شارع الإسفلت إلى مهراسنا وأكله تاركاً في القلوب غصة، وندبة ما زالت تشق حرير الذاكرة. أول أمس تجدّدت ذاكرة مهراسنا في كفرنجة عجلون حين اطلعت على اكتشاف يثبت أن أرض الأردن أصل لشجر الزيتون، إذ صرّح صديقي الدكتور نزار حداد مدير عام المركز الوطني للبحوث الزراعية أن زيتون المهراس في منطقة “الميسر” في هاشمية عجلون يُعد من أقدم السلالات لزيتون حوض البحر المتوسط، كما وبيّنت الخريطة الجينية أنه الأقرب لزيتون إسبانيا وإيطاليا وقبرص. هذا الدليل يدعم ما أثبتته المكتشفات الآثارية قبل سنوات من أن قرية “هضيب الريح” في وادي رم، هي أقدم منطقة في العالم زرعت بالزيتون قبل أكثر من 7 آلاف سنة. والاكتشافان معا يقولان أن الزيت دم الأردنين، وأن أمهم الزيتونة بجل معانيها وأفيائها، وإن كانت جدتهم الوردة بكل شذاها ورحيب عطرها الفوّاح. فليس ثمة ما هو أمتن ولا أقوى من قرمية زيتون تعلمنا التجذّر والأصالة، وليس ثمة ما هو أنضر من غص أخضر نعيش معناه. طالما أعجبتني تلك المهاريس التي تزين أكثر من منطقة في عجلون وبعض مناطق الأردن. ولكنها مميزة ومجتمعة بشكل فريد في منطقة الميسر. وطالما حزنت على أن مثل هذه الأشجار التي يجتاحها الزحف العمراني ويحاصرها وسيفتك بها، وأنها باتت تقتلع من ترابها لتباع زينة باهتة للقصور والفلل. اليوم وبعد أن أحيي الفريق البحثي لمركز البحوث الزراعية، بكل أعضائها المجدين أطالب بفرض حماية وطنية لكل مهاريس من مهاريسنا وخصوصا مهاريس الميسر. فكيف لإنسان أن يتجذر بأرضه حد شغاف القلب؛ ما لم تكن له شجرة باسقة تمد جذورها عميقاً؟!. أم أن شعارات أهمية الخضرة ليست إلا ظاهرة صوتية لم تترجم على صفحات التراب حتى الساعة.