رمزي الغزوي
ذات قهر وتلوث أطلق واحد من المتعبين صرخة مدوية مزلزلة: (أرجوكم أوقفوا الأرض عن الدوران أريد أن أنزل). لكني لست مع الصرخة أبداُ، فأنا أؤمن أن هذا الكوكب الأزرق الوديع، هو بيتنا الوحيد، وليس حافلة على خط الزرقاء عمان، أو الجامعة صويلح، نطرق شباكها، إذا ما أردنا النزول، في أي وقت نشاء. إنها الأرض: مهدنا، ومعاشنا، ودربنا وحلمنا وقبرنا. إنها أمنا الأولى.
السبت الماضي انطلقت حملة (صرخة وطن) لجمع القمامة في بضع مناطق ببلدنا. حيث احتشد مئات الشباب بقمصان وقبعات بيضاء يجمعون بأكياس ما تراكم من أوساخ خلفها الناس وراءهم في مناطق سياحية وغير السياحية. الحاضر الأكبر في هذه الحملة هو (السلفي) والتصوير المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي.
بكل صراحة ووضوح هذه الحملات لم تعد مجدية أبداً. فهي تقليد نجتره كل عام دونما وعي بمعناه أو فحواه. حملات لم تحدث الأثر المرجو منها عبر مسيرها الطويل. فمنذ خمس وثلاثين سنة، وأنا أشترك شخصياً في مثل هذا الشيء المكرور، ولكن الوضع لم يتغير أو يتبدل.
الناس ما زالت ترمي قمامتها في الشوارع، وتدمر الغابات بإبلاستيك المشروبات الغازية، وتترك مخلفات الرحلات في المتنزهات والغابات ببرود أعصاب ودون شعور بالخزي أو التقصير. ولهذا فالحملات ليست إلا ذراً للرماد في عين الحقيقة. فكيف تريد أن يجمع مئات الشباب في يوم ما (يزبله) شعب كامل مدار العام. تلك إذن قسمة ضيزى.
علينا أولاً أن نعترف أن المشكلة تكمن في الثقافة لدى المواطنين، وفي نظرتهم لأنفسهم ولبلدهم ومدنهم وقراهم وغاباتهم. فثقافتنا تؤمن أن البيت هو الوطن فقط، وخارج بابه للكلاب، كما يقولون. ولهذا ترى بيوتنا براقة نظيفة، فيما شوارعنا وساحاتنا وسخة.
فلو كان لدى المواطنين شعور حقيقي، بأن الوطن بيته؛ لحافظ عليه. وهذا شيء خطير. أي لا يوجد لدينا حس جمعي، يشعرنا أن الوطن بيتنا. هذه النقطة المؤلمة الحساسة هي التي يجب أن تنطلق منها الصرخات والحملات.
فلم يعد مجديا أن نعالج العرض ونترك المرض. نحن بحاجة لصرخة من أجل بناء ثقافة تغطي وتعلي من شأن هذه القيم التي أهملناها وافتقدناها. ثقافة تُعدُّ (الوطن بيتاً). نريد أن نوجه جهودنا نحو التثقيف والتنوير وتأصيل القيم.
لا نريد أن نقرع زجاج حافلة الوطن، لنقول: نريد النزول، بكل ما في الكلمة من يأس وقنوط وهروب، فلا وطن لنا غير هذا الوطن ولا بيت لنا غيره. ولهذا أتمنى أن نشمر عن عقولنا وأفكارنا ومواهبنا ووسائلنا؛ من أجل تأصيل معنى الوطن ومعنى نظافته، ونعيد بناء الشعور بالمسؤولية والإحساس بها لدى الناس. هذا ما يعول عليه، وما سواه، ليس إلا كيس قمامة نجمعه، ليتراكم بدلا منه أطنان وأطنان.