د.منصور محمد الهزايمة
خبز بلون الدم
مفجع -حقا- ما وصل اليه حال الإنسان العربي في كثير من أقطاره، عندما صار رغيف الخبر مثار جذب وشد بين المواطن وأهل الحكم، فقد أضحى هذا الرغيف برمزه، يتصدر ثورات الجياع، وحراك البسطاء، بشعاراته وصوره، حين لم يعد سقف المطالب لديهم يتعدى توفير لقمة الخبز، ولكن خبث الحكومات ومكر السياسات جعل المساومات على رغيف الخبز تتصدر المشهد دون خجل.
لكن لماذا الخبز؟ وما هذه القيمة العظيمة له لدى الشعوب حتى بين تلك التي لا يعتبر فيها أساس المائدة؟
يعتبر الخبز سيد الغذاء، والحاضر اليومي، وسر البقاء لدى الإنسان، وهو معروف منذ 8000 سنة، ويحظى لدى معظم شعوب العالم بشكل خاص بمعانٍ كثيرة، تتجاوز البعد الغذائي إلى معانٍ حياتية، وأخلاقية، مثل التعبير عن أن تناوله معا يعتبر دلالة المودة التي تستوجب الحفاظ عليها، كما يدل على الحياة نفسها، فالمصريون مثلا يسمونه العيش “الحياة”، بل يصل الحد أن الكد يكون من أجل العيش أي “لقمة الخبز”، ويعتبر العربي والمسلم الخبز نعمة واجبة الاحترام بصورة خاصة، بحيث لا يمكنه أن يراها تُرمى في الأرض دون أن يرفعها، وربما تفرض العادة عند البعض تقبيل الخبز عند رفعه، بمعنى أنه يحمل رمزا يتعدى القيمة الغذائية، أمّا عند المسيحين فيؤشرون برمز الصليب فوق الرغيف عند تقطيعه بشيء من القدسية.
لكن لماذا كان خبزنا في السابق متوفرا في ظل غياب المصادر والنعم، أمّا اليوم في ظل تفجر الموارد والثروات الهائلة في بلاد العروبة أصبح ممتنعا عزيزا، يكاد كثير من أبناء الأمة في أقطارهم المختلفة يحوزونه بشق الأنفس ، ربما لا نجد ما يعبر عن هذا التناقض -بالقياس- غير مقولة الفيلسوف الإنجليزي الساخر برنارد شو عندما فسر غزارة الشعر في لحيته وندرته في رأسه بإنه” غزارة إنتاج وسوء توزيع”. لقد بدأت العلاقة قوية وغريبة، منذ أن التقى الإنسان بالسنبلة لأول مرة، من حينه لم يفترقا، فالسنبلة تحتاج من يفرط حباتها، والإنسان يجمعها ويطحنها ويصنع منها خبزه، فقد أضحت حياتهما متبادلة التأثير، ومن هنا عُرفت الزراعة، واستقر الإنسان، ونشأت الحضارة، التي هي أساسا النتاج الطبيعي لصراع الإنسان مع محيطه.
من الطرائف التي تروى عن قيمة الخبز في إشعال الثورات، وعن التفاوت الطبقي، والفروق الاجتماعية، وجهل أحوال الرعية، ما حدث إبّان الثورة الفرنسية (1789-1792) عندما خرجت الجموع الباريسية-مثلما تفعل الأن-زاحفة نحو قصر فرساي، مطالبة بالخبز، وقتذاك ردت ملكة فرنسا ماري انطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر بمقولة أضحت مشهورة حتى اللحظة “إذا لم يكن هناك خبز للفقراء، دعهم يأكلون كعكا”.
برز -دائما- شعاران مهمان، ارتبطا بالخبز، يؤكدان على مفاهيم الحرية الاجتماعية، من قبيل “الحرية قبل الخبز”، والأخر يطلب العدالة الاقتصادية “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، لكن هيهات أن تتحقق هذه المفاهيم، مادام قمحنا في مخازن غيرنا، وحيثما يعز الخبز على الناس يزداد القلق ويشتد التوتر.
خسر وخاب كل من يستهين بخبز البسطاء، فقد كان للرغيف فعل تعجز عنه أعتى الأسلحة، حيث أن ثورات عظيمة قامت باسمه، وسقطت أنظمة وحكومات كان يظن أنها أرسخ من راسيات الجبال، فمن مصر إلى تونس إلى المغرب إلى الجزائر إلى العراق إلى الأردن إلى السودان إلى اليمن، كان الرغيف حاضرا بقوة، في كل الساحات والميادين، ينعى وحدة الجوع بيننا “بلاد الجوع أوطاني من الشام لبغدان ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان”، أمّا أهل السلطة لدينا فيبدو أنهم ما زالوا يعيشون نرجسية ماري انطوانيت في القرون الوسطى لكنّ الفطنة بفهم العبرة.
الدوحة – قطر