الدكتور محمد حسين المومني
ثمة فرق هائل بين القول إن إيرادات الخزينة لم تتحقق بسبب انفلات التهريب واستمرار بعض التشوهات الضريبية، وبين القول إن القرارات المالية لزيادة الإيرادات خاطئة ولا تزيد النمو. في الحالة الأولى الاشارة لتشوهات تجدر معالجتها أو مستجدات طرأت لم تحقق للخزينة توقعاتها، وفي الثانية انقلاب على فلسفة الإصلاح المالي منذ ثلاثة عقود تقريبا وفحواها التضحية بالنمو السريع الطارئ لصالح إصلاح هيكلي مستدام محفز لنمو استراتيجي بعيد المدى. وثمة فرق أكبر بين آراء اقتصادية وازنة ومحترمة من خبراء تنتقد اسلوب معالجة الاقتصاد والنهوض به، وبين رسميين ينضمون لهذه الانتقادات ولا يدركون ضرورة الدفاع عن القرارات التي كانوا هم جزءا منها. تناقض مربك مدفوع بشعبوية مؤذية يرسل رسائل خطيرة للخارج تضرب مصداقية الالتزام بالإصلاح وبرامجه، ورسائل للداخل تؤخر النمو المؤمل وتعزز ثقافة الريعية وتزيد من الضبابية بوجه القطاعات الاقتصادية المختلفة.
ليس ذاك اخطر ما في الأمر، وكأن التقاعس عن الدفاع عن الإصلاح المالي واظهار عدم القناعة به والتصريح ضده ليس كافيا؛ الاخطر، ان هذا التناقض يظهر عدم دراية بأبجديات برامج الإصلاح المالي والاقتصادي الأردني منذ مطلع التسعينيات، والتي ارتكزت لفلسفة أن إصلاح المالية العامة واحداث التوازن المطلوب بين بند الإيرادات والنفقات، وخفض الدين وعبئه، هي القاعدة الصلبة التي تؤسس لاحداث النمو الحقيقي المستدام والعميق. قد لا يكون ذلك مقنعا لكثير من الاقتصاديين، ومنهم من يحاجج بمنطقية عكس ذلك، لكنه نهج الإصلاح الأردني منذ عقود والذي له مبرراته المقنعة ايضا.
من هذه المبررات ضرورة التفريق بين التنظير والواقع، ففي حين لا يجادل الماليون الرسميون منطق الاقتصاديين ان الرسوم والضرائب تقلل النمو في المدى العاجل، تجدهم يشددون ان الغاءها يعني عدم قدرتهم على الالتزام بأداء المستحقات المالية وتمويل النفقات الجارية للدولة، فالأردن ليس دولة ريعية ولا بد من موارد غير النفط والغاز تمول نفقات التشغيل للقطاع العام. ثم ان التوسع بالإعفاءات وإلغاء أو تخفيض الرسوم والضرائب على القطاعات الاقتصادية بهدف تحفيز النمو قد تم تجريبه أردنيا وكانت النتيجة زيادة العجز في الموازنة، وزيادة الدين، واستشراء الفساد، واضعاف تنافسية القطاع الخاص الذي استكان للربح عن طريق الاعفاءات الممنوحة.
إصلاح المالية العامة هو حجر الأساس للنمو الاقتصادي، رغم ان هذا النمو لن يحدث الا بعد ان تتمأسس الإصلاحات المالية، في حين أن القفز عن الإصلاح المالي قد يحدث نموا سريعا ولكنه غير مستدام أو أصيل لانه مبني على مبدأ الإعفاءات لا القوة الاقتصادية التنافسية الحقيقية. كما أن تجاهل الإصلاح المالي سيزيد من العبء على كاهل الموازنة والمديونية ويقلل من الثقة بالاقتصاد ويسير به نحو الخطر، وفي كل مرة انحزنا عن هذا المنطق تحت وطأة الشعبوية واجهنا نكسات اقتصادية ومالية، وهرعنا للمجتمع الدولي نطلب النجدة، وكنا دائما نسمع نفس الجواب اننا ننفق أكثر من إيراداتنا وهذا يمثل خطرا ماليا آنيا وضعفا اقتصاديا آجلا.