أ. سعيد ذياب سليم
” ربة عمون “
تطير أسراب الحمام سعيدة فوق الجبال ، تنساب مع التيارات كراقصات البالية ، تحلق في دوائر تضيق و تتسع في نسق موسيقي جميل ، تغرقك الدهشة ، ترتسم حولك لوحات جميلة ، فوق المنحدرات بيوت متراصة كالمدرجات ،على القمم مآذن تناجي السماء، في الوديان و على السفوح آثار التاريخ حيث سار ، مشهد رائع ينفرد به المكان ، يستظل برايتنا الهاشمية الخفاقة في الأفق ، لا عجب فأنت في جبل القلعة ربة عمون.
في الوقت الذي بنيت فيه حضارة وادي النيل وقف العمونيون هنا ، أقاموا مدينتهم ، وبنوا الأسوار لحمايتها مستخدمين الحجارة الضخمة ترى ذلك في بقايا السور والقصور والآبار التي حفروها في الصخر . ماذا ضمت أسوار قلاعهم؟
أين انتصبت آلهتهم ؟ كيف كانت طقوسهم في الحب و الحرب ؟
ما السر في هذا المكان؟ اجتمع عليه آثار كنيسة بيزنطية ومسجد أموي و معبد وثني .توارثت الحضارات قداسته ، كيف اتفق لهم ذلك ؟ أ لقربه من السماء ?
تسير في هذا المتحف المكشوف في رحلة ترفيهية تاريخية ممتعة ، تزاحمك أشباح الماض ، شظايا التاريخ حولك ، كتابات يونانية ، بقايا أعمدة رومانية، زخارف إسلامية هندسية ونباتية ، تمر بمعبد هرقل و أعمدته الضخمة ، تشعر بالرهبة ، تبحث عن طريقة لترقى إلى قاعدتها ، ثم تدعوك بقايا الكنيسة البيزنطية ، تعيد إحياء الماض ، تسمع ناقوسها وتراتيل رهبانها ، في طريقك باتجاه القصر الأموي كهف يضم عدة حجرات يعود إلى العصر البرونزي ، استخدمه العمونيون مدفنا لموتاهم ، ثم تصعد بضع درجات لتصل إلى بقايا المسجد الأموي ، تقف في محرابه تمر بنوافيره تسمع رجع المصلين خلف إمامهم ، تنحدر إلى القصر لتستقبلك ساحة مكشوفة ، تتخيل الناس ينتظرون دورهم في المثول أمام الوالي تسمع وقع خطوات الحراس يسيرون بحزم ، فإذا دخلت القصر تكتشف بناؤه المربع بمحوريه ، ينتهي أحدهما بالبوابة الشمالية و الجنوبية وينتهي الآخر بإيوانين يعلوهما نصفا قبة . تتجول عيناك ، تقع على الزخارف الهندسية ، تقف تحت القبة الخشبية في الوسط ، تتصور كيف توزعت قطع الأثاث و لماذا استخدمت هذه الحجرات ، كيف كانت أزياؤهم ؟ ما هي ألوان ملابسهم ؟
لتخرج بعد ذلك إلى شارع الأعمدة الذي يؤدي إلى بقايا أبنية استخدمت في أزمنة مختلفة. بجوار القصر صهريج ماء دائري الشكل محفور في الصخر ، تجمع فيه مياه الأمطار ، ما زال بالإمكان استخدامه ، تغذيه قنوات تنتشر في جبل القلعة ترى فتحاتها هنا و هناك .
فإذا وقفت على السور الشمالي تذهلك عمان المعاصرة ، في البعيد ترى الأبراج الحديثة والمساجد و الفنادق ، فإذا لمحت الراية خفق قلبك معها طربا . وفي المطل الشرقي ، ترنوا إلى وسط البلد و المدرج الروماني ، تسير على الأرصفة تتبع ذكرياتك ، هنا سرنا و هناك اجتمعنا و في تلك الزاوية كان لنا لقاء ، ذلك الشارع يؤدي إلى سبيل الحوريات و ساحة المسجد الحسيني ، وذلك هو شارع الأردن الذي يصل شمالا إلى جراسا و جلعاد و أربيلا .
من هنا مرت جحافل الفاتحين ، وقوافل التجار لتصل إلى الجزيرة العربية جنوبا مارة بالبتراء و أيلة ، و شرقا إلى طريق الحرير و غربا إلى يبوس وشمالا في سفر لا يتوقف.
لن تكفيك زيارة واحدة لابد أن تستعين بالكتب لتعرف مدلولات الأشياء و الحوادث التاريخية ثم تعود تحمل الشوق في رحلة حب لا تنتهي ، أنت و كل الذين جاؤوا من مختلف بقاع الأرض يلاحقون الحضارات الإنسانية يحملون أسئلة تبحث عن إجابة يجدون البعض منها هنا في هذا المتحف الضخم على تراب وطني.