سعيد الصالحي
لم أشعر أنني غادرت عمان في رحلة عمل إلى مدينة العقبة إلا بعد أن تجاوزت مطار الملكة علياء بعدة كيلو مترات، فقد بدأت المساحات الفارغة تزداد، وصرت أمشي وسط لوحة زيتية يغلب عليها لون التراب ويقصها بلا شفقة شريط أسود طويل.
كان الطريق يقطع الصحراء كنهر أسفلتي متدفق ينبع من ميناء العقبة جنوبا ويصب في مطار الملكة علياء في الشمال، وكان نهر الطريق الاسفلتي يعبر أحيانا بعض القرى لتنبت على أحد جوانبه أكشاك القهوة وبعض الإستراحات المتعبة، سرت عبر النهر الأسود وكانت المساحات الشاسعة غرب وشرق النهر تلفت انتباهي، فلأول مرة في حياتي أرى الفراغ وألمسه، وكنت أسأل نفسي لماذا لا يستطيع هذا النهر أن يجلب الحياة على ضفتيه كما تفعل الأنهار الحقيقية؟ فالنهر يبقى نهرا أن جرى بالماء أو بالشاحنات والسيارات، فالحركة دون أدنى شك بركة.
طوال الطريق كنت أتسلى في قراءة الشواخص المرورية التي كان بعضها يرشد وينبه وبعضها كان أكثر غلظة حيث كان يأمر وينهى فقط، ولكن الشاخصة المرورية التي لفتت انتباهي وأطلقت عنان مخيلتي، كانت لشاخصة يتوسطها جمل، شاخصة غريبة ولطيفة بالنسبة لي فأنا غير معتاد على رؤيتها في المدينة، ولكن الأكثر غرابة أنني لم أشاهد أي صرمة من الأبل، وكنت أظنها شاخصة من أجل إثارة حماسة السياح الأجانب الذين يرتادون الطريق قبل أن تكون من أجل الحيطة، كلما اقتربت الحافلة من مدينة العقبة كانت الشاخصة المرورية المثلثة والمحاطة بزنار أحمر لامع وتتوسطها صورة الجمل تظهر أكثر على جنبات الطريق، وهذه الشاخصة جعلتني أفكر بشاخصة جديدة نستعملها في المدينة بذات الشكل والزنار الاحمر ولكن سيتوسطها صورة إنسان غاضب ولن أقول حاقد كالجمل، وهذه الشواخص سيتم وضعها في الأماكن التي غالبا ما تتكرر فيها المشاكل والمشاجرات والمشاحنات، وباستخدام هذه الشواخص المبتكرة سنزيد من معدلات الحلم وطولة البال ونحسن من ردود الفعل الايجابية لرواد وزوار هذه المناطق، ومن ناحية أخرى سيحاول القاطنون في هذه المناطق إثبات خطأ القرار الحكومي بوضع مثل هذه الشواخص في حيهم، -فالحكومة أحيانا لا تجيد قراءة الأحياء- وسترتسم البسمات على محياهم بكل شماتة وصلف لأن زوار المنطقة لن يصادفوا الغاضبين أو الحاقدين كما حدث معي حين لم أصادف صرم الأبل أثناء مروري عبر نهر الاسفلت الصحراوي.
الطريق نحو مدينة العقبة طويل فبدأت أجتر صورا قد رأيتها أو قرأت عنها للصحراء، فبكل تأكيد كان هنا قبل مئات السنوات قوافل تجوب الصحراء بين الواحات وتسير باتجاه البحر مثلما أفعل الآن، لقد كانوا هنا منذ زمن ولكنهم ذهبوا، وأنا سأذهب مثلهم، وسيتذكرني غيري كما تذكرتهم بدون ملامح ودون أي أثر يتحدث عني، سيطلق العنان لمخيلته وربما يستحضرني رقميا بتقنيات عصره وامكانياته، فكل شيء سيزول وسيبقى نهر الأسفلت يبتلع كل من تجرأ وعبر من خلاله نحو الآفاق، وستحيا شاخصة الجمل لتسعد سائحا آخرا سيأتي ذات يوم، وستموت شاخصة الغضب لأن الحي أخيرا أدرك معنى الحياة.