الاب رفعت بدر
«لا مجال للكراهيّة.. علينا ألا نتجاهل نواقيس الخطر بل أن نتصدى لها».. بهذه الكلمات المجلّجة ختم جلالة الملك عبدالله الثاني خطابه التاريخي في الدورة 77 من على منبر الأمم المتحدّة، حيث حذّر من نواقيس كثيرة تدقّ أخطارها في عالم اليوم، ولكنّه ركّز في نهاية كلمته على ناقوس يدق، متجاهَل من قبل كثير من الأوساط، وجلالته فقط قد حذّر منه ودعا إلى تكثيف الجهود للتصدي له، وناقوس الخطر هذا هو التهديد للهويّة المسيحيّة في هذه المنطقة.
لم يركزّ جلالة الملك فقط على مسيحييّ القدس فحسب، إنما أشار في كلمته إلى المسيحيّة في كلّ المنطقة، وهو يدرك تمام الإدراك بأنّ العشر سنوات الماضيّة ما كانت سهلة أبدًا على المسيحيّة في الشرق، فقط جرى أكبر تهديد لهذا الحضور والنسيج من خلال التحديّات التي فرضها تنظيم داعش الإرهابي وما زلنا نرى على سبيل المثال العديد من العائلات العراقيّة التي هجّرت، واستضافها الأردن، ولكنها تغادر خلال الفترة وبغزارة إلى بلدان العالم الواسع البعيد. وكذلك يدرك جلالته بأنّ ناقوس الخطر قد دقّ في سوريا حيث هجرّت آلاف العائلات بسبب ا?حرب، وما تزال بسبب الحصار والفقر. كما دقّ في لبنان بسبب الجمود السياسي وما تبعه من أوضاع اقتصاديّة سيئة. وبلغة الأرقام نستطيع أن نقول بأنّه خلال العقد الماضي هجّر أكثر من مليوني شخص من المسيحيين من البلدان العربيّة إلى آفاق جديدة.
يحذّر جلالة الملك دائمًا وأبدًا من هذا الخطر المحدق بالمسيحية في المنطقة العربيّة، ولأنّه يدرك تمامًا بأنّ الشرق الأوسط هو مصنوع لكي يكون متعدّدًا، ولكي تحترم التعددّية وحقّ الاختلاف. ولكنّ العصر الحديث كان، مع كل أسف، سيئًا وطاردًا لهذا التعدّد. ولقد كان الأردن متحسسًا للأخطار التي ستأتي خلال العقد الماضي، وكان أول الداعين للحفاظ على الهويّة العربيّة من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر دوليّ مهم في عمّان، عقد قبل عشر سنوات، بعنوان » الدفاع عن الهوية العربية المسيحية »، برعاية مباشرة من جلالة الملك، وفيه قال: «إن? الدفاع عن الهويّة العربيّة المسيحيّة ليس ترفًا، وإنما هو واجب» (3/9/2013).
وبعد العشر سنوات، وبعد المآسي التي حصلت، يقف جلالته على منبر الأمم المتحدّة، ويقول ليتنا كنّا أكثر إصغاءً لناقوس الخطر الذي كان يدقّ، وحذرنا منه، لكنّ العالم لم يُصغ، والجماعات الإرهابيّة والعقليات المنغلقة قد عاثت فسادًا في دول الشرق، وكانت الخسارة الكبيرة بحق المسيحيين، ولكنها أيضًا بحق الشرق الأوسط الذي يفرغ تدريجيًا من مسيحييه.
إلا أنّ كلام جلالة الملك كان بشكلّ خاص على المسيحيّة في القدس الشريف، فالقدس هي محطّ ومحجّ المليارات من البشر. وقال بأنّ الكراهيّة والانقسام لا يمكن أن يكونا في مدينة السلام. لذلك، إنّ الدفاع عن المسيحيّة والمسيحيين في المدينة المقدّسة قد جاء من فم هذا «القائد المسلم»، كما وصف نفسه، لكي يبّين للعالم بأنّ الدفاع ليس فقط واجبًا مسيحيًّا، وإنما هو واجب كلّ مسلم. وليت قادة العالم العربي، كلهم، يقفون وقفة هذا الملك الشجاع من على أعلى منبر في العالم، ليقولوا: يجب الحفاظ على المسيحيّة في المنطقة العربيّة وفي القد?.
ندرك تمامًا بأنّ الاحتلال قد فعل أفعاله، وتسبّب بهجرة وتهجير العديد من العائلات العربيّة من القدس، ومنهم المسيحيون الذين لم يتبقّ منهم إلا فئة قليلة. لكنّ هذه الفئة قادرة على أن تكمل المشوار المسيحي والمشوار الحضاري، وهم ليسوا بمتفرجين أبدًا على قضايا شعبهم، وما يحصل في فلسطين يتصدى له المسيحيّ والمسلم معًا. لكنهم بحاجة الى دعم وتشجيع للبقاء والصمود، ليس فقط من الوصي على المقدسات، وهو جلالة الملك بامتياز، ولكنهم ايضا بحاجة الى دعم اشقائهم في الدول العربية الشقيقة للاردن.
شكرًا جلالة الملك، باسم كل الشرفاء، وباسم كل المسيحيين في المنطقة العربيّة، وفي الأرض المقدّسة، وفي الأردن، لأنك الصوت الوحيد المجلجل الذي ما زال يدافع عن الهويّة المسيحيّة في المنطقة، ومن خلالها على صورة الشرق الأصيل بأن يكون الواحد محترمًا لأخيه، فبغياب الأخ لن يكون هنالك مجال للحديث عن الحوار في الشرق الأوسط، وسيكون الهلاك ليس فقط للأخ الغائب بل للأخ الباقي الذي سيفتقد أخيه وشريكه الحضاري.
شكرا جلالة سيدنا.