سعيد الصالحي
كنت أتمنى أن أنعم بلحظات من الصمت في زيارتي الإضطرارية لمركز صيانة المركبات، وأثناء جلوسي في قاعة الانتظار على أحد المقاعد الجميلة والمريحة، حدث أن أحد الزوار قد تعرف للتو على زائر آخر وبدأ الإثنان في تجاذب أطراف الحديث وكأنهما يجلسان في ملكيتهما الخاصة، وكان صوت حديثهما مسموعا لكل من في القاعة، واستمرا بالحديث لمدة ساعة أو يزيد دون توقف حتى أصابني الصداع كضريبة مضافة لهذه الثرثرة، ثم أضطررت لاشعال سيجارة دونما اكتراث بشاخصة منع التدخين، لجأت لهذا الحل كمسكن فوري للصداع، فحبذا لو وضع مركز الصيانة لافتة أخرى تمنع الحديث بصوت عال، فأنا لست معنيا بسماع هذا النوع من القصص في الوقت الذي كان ذهني مشغولا فيه بعطل سيارتي والمبلغ الذي سأدفعه في نهاية المطاف، واصلا الحديث ولم يتوقفا والصداع لم يتوقف عندي أيضا من مقال الحديث ومقام الصوت ومن المصطلحات الانجليزية التي يتم اقحامها بالحديث للاستعراض أمام من هم في قاعة الإنتظار كدليل على مستوى المتحدثين الاجتماعي والعملي.
لقد كان المتحدثان يقتلان الوقت بسلاح الكلام الفارغ، والوقت سيموت في كل الحالات سواء بالكلام أو بغيره، فحبذا لو قاتلا الوقت بالقراءة أو بالاستماع إلى الموسيقى، ولماذا كانا مصران على مشاركة أحاديثهم التي لا تغني ولا تسمن مع كل من في القاعة عن طريق صوتهم المرتفع؟ ففي بلادنا ما زلنا لا نعرف متى نتكلم وأين؟ ولا نعرف كيف وبماذا نتكلم؟ ومتى نهمس ومتى نصدح بأصواتنا؟ فما زال الحديث بالنسبة لنا “حواديث” واستعراض ورغي، نتكلم لأجل الكلام، كأن الكلام هو الغاية وهو ضالتنا المنشودة ولم يكن في أي يوم ليس أكثر من وسيلة راقية للتواصل وتبادل المعرفة.
وهذه ظاهرة تستحق الدراسة في مجتمعنا، فنحن لا نتكلم في بيوتنا، ولا في أماكن عملنا، وحتى في الجاهات نجلس لنستمع أيضا في معظم الاماكن، فقد أجبرنا على الاستماع لدرجة أننا ننطلق كالراديو لا نصمت أبدا عندما نتواجد في أي مكان يتيح لنا امكانية التحدث، فبعضنا حتى لا يستطيع الحديث مع نفسه، فقد تعودنا في مجتمعنا أن نصمت لأن السكوت من ذهب، ولكن جميعنا على ما يبدو يفضل الفضة أكثر هذه الأيام لو استطاع إليها سبيلا.
ثقافة الاستماع حميدة والحث عليها فضيلة أيضا ولكن ألا يستحق الكلام الجيد أن نؤسس له ثقافة هو الآخر كتلك التي تحث على الصمت.
وحتى نبدأ في نشر هذه الثقافة فأنني أدعو كافة الأماكن التي تضع لافتات منع التدخين أن تستحدث لوحات ولافتات أخرى للحد من ظاهرة الثرثرة في الأماكن العامة، فالثرثرة تضر بصحة الآخرين وتسبب الجلطات وتؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان، أو ربما سأقترح على ممثلي في مجلس النواب ضرورة الإسراع للتقدم بمشروع قانون لاستحداث تعرفة جمركية على الثرثرة لننهي أسطورة أن الحكي ليس عليه جمارك.