د.ابراهيم النقرش
لقد مات في العرب كل شيء إلا غرائزهم، واندثرت فيهم كل فضيلة كانت يوماً تميّزهم، فلم يبقَ فيهم من الشهامة والنخوة سوى صدى الماضي، يتردد في بطون الكتب وأدراج الرياح، ولا أثر له في المواقف ولا في الساحات. غزة اليوم تحت النار، تحت القصف، تحت الركام، تحت الأرض, ولا ناصر لها من إخوتها العرب، لا بيدٍ تمتد، ولا بصوت يُرفع، ولا حتى بدمعةٍ تُراق.
في مفارقة عجيبه موجعة للتاريخ مذلة للنفس، نقف مذهولين أمام صمت العرب، نُقارنهم بِكَفره مكة وطغاتها وعتاتها على الله الذين حاصروا المسلمين في الشعب، ثم ما لبثت قلوبهم أن رقّت ودمعت عيونهم وتحرك الدم في عروقهم وعصفت النخوة والحمية بروؤسهم ، فخرجت نخوة من أصلابهم فهبوا.. ، فأغاثوهم وأخرجوا النبي (عليه السلام )وصحبه من جَور الحصار. أين نحن من تلك النخوة والفزعه والشهامة والعزه؟! كيف نلوم كفار مكة وقد كانت فيهم من المروءة والشهامة ما لم نجد اليوم في جموع عرب يزعمون الإسلام؟!
لقد كشفت غزة عورات النظام العربي وسوءته ونكرانه لذاته وجفوته ، عرت وجوه الزيف، وأسقطت أقنعة العجز”التضامن” الممسوخ والشجب والادانة والاستنكار الممجوج . الأنظمة العربية وقادتها يغطّون رؤوسهم، يصمون آذانهم، ويخرسون ألسنتهم، كأن على رؤوسهم الطير. صمتهم ليس حياداً، بل خذللا وملامه . غضوا الطرف خوفا واستحيائاً من أمريكا، ومن لقيطتها إسرائيل، ومن كل من يذبح أهل غزة من الوريد إلى الوريد.
غزة بيعت بأبخس الأثمان، تنكروا لدينهم وعروبتهم ولدماء الشهداء، وتخلوا عن أطفال يموتون تحت الركام والأنقاض، وعن أُمهات يدفنّ أبناءهن بأيديهن يحفرن القبور , بدموع جمدت بأعينهن حسرة وقهرا ، وعن شيوخ ومرضى يُقصفون وهم على أسِرّتهم، بلا حول ولا قوة. أنكروا غزة بأهلها ليبقوا في كراسيهم، ليرضوا واشنطن، وليسترضوا تل أبيب. بلا قلب أصبحوا ، بلا رأفه، بلا مخافة من الله. لم يرحموا، ولم يشعروا، ولم يخجلوا من سوء ماعملوا.
الإعلام العربي الرسمي الكسيح إما شريك في الجريمة أو أداة لتمييعها، يخبئ الحقيقة، ويغسل أدمغة الجماهير، ويحاول أن يُنسي الناس من هي فلسطين، ومن هم الصهاينة، ومن هو العدو الحقيقي.
أمةٌ تُسحق فيها غزة ولا تُسمع فيها صرخة مغيث ، لا تستحق أن تُسمّى “أمة”.
لم يبقَ من الرجولة شيء، لم يبق من الشهامة شيء، ولا من العروبة شيء، يا لَلعار. مشركو قريش في الجاهلية كانوا أكثر مروءة واعز نفرا من عرب اليوم، فأي حضيض هذا الذي بلغناه؟! وأي زمن هذا الذي صرنا فيه نحن أعداء أنفسنا؟!
لكن، رغم كل هذا السواد، يبقى الأمل في الشعوب. الشعوب التي وإن كمّمتها الأنظمة، لا تزال تحمل بعضاً من الغضب، وبعضاً من الكرامة. نناشد تلك البقية من الضمير في الأمة، أن تستيقظ، أن تصرخ، أن تتحرك. لعل نخوةً ضاعت تعود، ولعل كرامةً سُلبت تسترد، ولعل غزة، التي تُضرب ولا تنكسر، تجد فينا من يسمع إستغاثتها فتسري النخوة في عروقه..
لكن لا بد أن نكون منصفين في شهادة التاريخ، فإن المملكة الأردنية الهاشمية، وعلى رأسها الملك عبد الله الثاني، كانت من الأصوات القليلة الصادقة، التي لم تصمت. الأردن وحده، رغم كل التحديات ،فقد تحمل اكثر من حجمه ومستطاعه.. وما زال يسعى جاهداً لإيصال المساعدات، يرفع صوته في المحافل الدولية، ويقف مع غزة وأهلها وقفة أخٍ لا يُساوم ولا يُهادن. مواقفه ليست موسمية ولا صوتية، بل أفعال على الأرض، وكرامة في السلوك السياسي والإنساني
أيّها العرب، لا تظنوا أن النار التي تأكل غزة اليوم لن تطالكم غداً. “أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض”، وحين يصمت الجميع عن المظلوم، فلن يجدوا من يتكلم لأجلهم حين يصبحون الضحية التالية. إسرائيل لا ترحم، والتاريخ لا يغفر. ومن يمشي بقدميه كجيفة نحو مزابل التاريخ، فلا ينتظر غير اللعنة والخذلان