د. عمار علي حسن
لم يستطع أي من شعراء فلسطين الابتعاد عن قضيته الوطنية، فهي ضالعة في ذائقته الفنية، وساكنة في شعوره، مشتعلة دائما في ذهنه وأن تلهى عنها قليلاً، وتشكل جزءًا أساسيًا من معرفته ووعيه، بل إن تاريخه الشخصي، ومساره الاجتماعي مربوط بها في الحل والترحال في مدن فلسطين وبلداتها وقراها، أو في مخيمات الشتات والمنافي والغربة وراء البحار أو في الصحاري. وقد انعكس كل هذا على الشعر الفلسطيني فأهداه شكلًا من الغنائية بوصفها حالة فنية، تعبّر عن الانتماء الإنساني والعربي لشعر المقاومة الفلسطيني، وكونها من خصائص الفارس المنتصر، أو المؤمل في الانتصار. ولا يمكن فهم هذه الغنائية المتدفّقة؛ إلا في إطار تلك الشخصية البطولية المعطاءة؛ التي تكتسب مضمونها، لا من تأكيد الذات الضيقة، وإنما عبر التمسك بقوميّتها وتاريخها.. لذلك لا يستسلم الشاعر الفلسطيني للهزيمة؛ لأنه يتمسّك بكرامته العربية، وبانتمائه واستمراره، حسبما يقول عبد الوهاب المسيري. وبعض شعراء فلسطين كرسوا أغلب قصائدهم لخدمة وطنهم الضائع مثل توفيق زياد وسميح القاسم، وبعضهم بدأ بذلك، ثم انخرط في أغراض شعرية أخرى، لكنه كان يعود إلي نقطة الانطلاق، حتى لو سلك طريقًا شعريًا مغايرًا، مثل محمود درويش. وهناك من برزت فلسطين ناصعة في قصائدهم مثل سلمى الخضراء الجيوسي، وفدوى طوقان، ومعين بسيسو، وليلى علوش، وسليم جبران، وراشد حسين، وفوزي الأسمر، وأحمد حسين، وعبد اللطيف عقل، ووليد الهليس، وأحمد دحبور، وعبد الكريم السبعاوي، وغيرهم. ثم جاء الجيل التالي حيث سليمان دغش، ونزيه خير، ونعيم عرايدي، وحسين مهنا، وسميح صباغ، وشوقية عروق، ومصطفى مراد، ومالك صلالحة، وفاروق مواسى، وناجي ظاهر، وضرغام جوعية، وإبراهيم عمار، وسناء سعيد، وغيرهم. وعبرت قصائد هذين الجيلين، شأنها شأن الألوان الأدبية الأخرى، عن أمرين أساسيين: 1 ـ الثبات والتمسك بالأرض، حيث البقاء والفداء والأمل، ثم الكفاح في سبيل التحرر، خاصة الانتفاضة وانطلاق الحلم، ومعه صور الغد والنهوض، والشهيد، والحجر. 2 ـ ربط أدب المقاومة الفلسطيني بشكل مُحكم بين المسألتين السياسية والاجتماعية، وآمن بتلاحمهما لينطلق الفعل المقاوم، مدركًا أيضًا ذلك الترابط بين قضية الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال وبين قضية التحرر في العالم العربي والعالم، وفق ما يراه غسان كنفاني. ويستعيد الشاعر الفلسسطيني شوقي بزيع، الذي يسكن لبنان، الكثير من الأشعار التي نظمها شعراء فلسطينيون في غزة، بدءًا بسميح القاسم الذي يخاطبها قائلًا: “ما أنت؟ من؟ أمدينةٌ أم مذبحة؟/ يتفقد الأغراب من حينٍ لحينْ/ تفاح جرحك/ هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟/ تفقد الأغراب جرحكِ :قد تموتْ/ في الفجر غزة قد تموتْ/ وتعود في الفجر الحزينْ/ صيحات حبكِ والحياة/ أقوى وأعلى/ يا صباح الخير أختَ المعجزاتْ.” وهناك قصيدة محمود درويش “الخروج من البحر المتوسط”، التي يقول فيها: “أتيتُ أتيتُ/ سيروا في شوارع ساعدي تصِلوا/ وغزة لا تبيع البرتقال/ لأنه دمها المعلّبُ/ كنت أهرب من أزقتها/ وأكتب باسمها موتي على جميزة/ إن الوضوح جريمةُ/ وغموض موتاكم هو الحق الحقيقة / آه لا تتحرك الأحجار/ إلا حين لا يتحرك الأحياءُ/ فالتفّوا على أسطورتي.” وتوجد قصيدة للشاعر معين بسيسو، يقول فيها: “يُفرد القلبُ جناحيه بعيدًا ويطيرْ/ لبساتينكِ يا غزّتيَ الخضراء/ في ليل الجحيمْ/ ولجدرانكِ تغلي كالصدورْ/ غزّتي أنا لم يصدأ دمي/ في الظلُماتْ/ فدمي النيرانُ في قشّ الغزاةْ/ وشراراتُ دمي في الريحِ/ طارت كلماتْ.” ويقول أيضًا في قصيدة أخرى بعنوان “معركة”: “أنا إن سقطتُ فخذ مكاني/ يا رفيقي في الكفاحْ/ واحملْ سلاحي لا يُخفكَ/ دمي يسيل على السلاحْ وانظرْ الى شفتيّ أُطبقتا/ على هوُج الرياحْ/ وانظرْ الى عينيّ أُغمضتا/ على نور الصباحْ/أنا لم أمتْ أنا لم أزل أدعوك/ من خلف الجراح.” ولأن الشعر يواكب الحدث أسرع من القصة والرواية، كان من الطبيعي أن يلتفت شعراء فلسطين إلى الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، فيبدعون قصائد مكتملة أو مقطوعات متدفقة، حماسية تشد من أزر المقاومين، أو غارقة في المحنة التي صنعها الدم والدمار. إنها المحنة التي جعلت الكاتبة السورية غادة السمان تقول: “أتوقع ولادة شاعر كمحمود درويش، وروائي كغسان كنفاني، وموجة من الأدباء الفلسطينيين في غزة.” وجعلت الكاتب راسم المدهون، يرى أن “حياة كتاب غزة وشعرائها هي عادة موسم بين حربين، وقت لترميم البيوت كما لترميم الأرواح وربما لاستعادة كتابات نثروها خلال أيام سابقة هنا أو هناك ولم تزل لها سخونة الرماد وبعض ناره الكامنة والقابلة للاشتعال مرة أخرى وثالثة ورابعة فتحرق في طريقها وفي تنقلها المدروس الجدران والكتب والأطفال والآباء معا كأنها طاعون يوزع لهبًا قاتلًا أينما مرّ. وأسعفت وسائل التواصل الاجتماعي شعراء غزة ليبدعوا القصائد في أتون الحرب، فها هو الشاعر يوسف القدرة ابن مدينة خانيونس، ينشر على صفحته في “فيسبوك” قصيدة يقول فيها: “على الرصيف/ قرب موت وشيك/ ومباغت/ نسرق وقتًا نحسبه لحياة” وفي نص آخر يقول: “يتجمد قلبي/ يصير المدى موحشًا/ ويبدو من هنا القمر وحيدًا وبائسًا/ تصير خطواتي لفرس تائه في صحراء/ تصير البلاد غامضة كأسماء من غادرتهم الحياة/ تصير البيوت سجونًا أو أشباح/ والشوارع لا تؤدي إلى شيء/ وحده الله يربت على كتفي ويبتسم.” أما الشاعر جبر جميل شعث فيكتب: 1 “في الحرب/ كل حجر يسقط/ يسقط معه نص لما يكتمل/ وتكف الكلمات عن اللعب الحر/ في سديم المجاز 2 “لا نص في الحرب إلا نص الحجر/ وعليك أن تتهجاه مكرهاً/ كتلميذ أبله تشابهت عليه الحروف/ وترادفت مفردات الجمال لديه/ ومفردات الخراب/ عليك أن تقرأ النص وحدك/ دون التلفت ذات اليمين/ وذات الشمال فلن تأتيك أجنحة سماوية/ تهصر فوديك/ وتضم كتفيك/ لتهييء لك النص/ وتقدح لك الشرارة” ونشر الشاعر عمر حمش قصيدة أشبه بمشهد يومي عاشه: “ابنتي كانت تستحم/ والتقط نفسا وعاد يصيح/ أستروها وأنتم تحرجونها/ لحظتها كانت الطائرة تغادر”… وفي نص آخر، يقول: “أية مفردات تروي.. وأية لغة؟/ لا أكسجين في اللغة الفارغة وانعطب الكلام/ الآن أصوم/ قليلا أصوم/ إلى أن يأتي الهواء/ وللغتي القادمة تعود الحياة” وهناك شعراء لجأوا إلى تسجيل يومياتهم، بشكل نثري مشهدي، أشبه بما أبدعه محمود درويش في “أثر الفراشة” وقبلها “ذاكرة للنسيان”، فتقدم الشاعرة فاتنة الغرة التي تعيش في بلجيكا، وكانت في زيارة لعائلتها في غزة حين اندلعت الحرب، على صفحتها في “الفيسبوك” مشاهد حية للحياة اليومية للناس في زمن الحرب الضروس، أحدها عن ذلك الرجل الذي يحمل كيس طحين، وحلة معدنية، ويقوم من وقت إلى آخر بإعداد الخبز وسط زحام الهاربين من القصف إلى الشوارع المدمَرة. ويُبدع الشاعر الفلسطيني ناصر رباح نصًا يعبر عن حالة الحرب التي ما إن تذهب عن غزة حتى تعود إليها سريعًا، فيقول: “هي حرب واحدة أخرى وتمضي، هكذا قلت في الأيام الأولى لحرب سابقة. في الأيام الأولى لم تكن تعني الحرب لي شيئًا أكثر من مجرد ضيف ثقيل سوف يأخذ وقته ويمضي حيث لا تشغلنا الحرب في غزة كثيرًا فنحن في حرب دائمة ويومية مع الحياة، حرب من أجل الكهرباء ومن أجل المياه ومن أجل السفر ومن أجل فرص العمل. لقد اعتادت الحرب علينا واعتدنا عليها، في غزة نذهب للحرب كأننا ذاهبون لنشجع فريقنا في لعبة الكرة، نهتف ويشتد صراخنا كلما أحرزنا شهيدًا إضافيًا أو هدم لنا بيت هآخر. نحن في غزة مصابون بهستيريا الشهادة فلم يعد لدينا شيء نقدمه لحياتنا البائسة سوى الموت، لذا نذهب إليه باحتفالية كبيرة وبضجة مبالغ فيها”.