الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
لو أن البحاثة الإنكليزي “تشارلز دارون” كان عربًيا أو مسلمًا لحسبت أنه قد سمع قول الله تعالى “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” العنكبوت 20 فامتثل لهذا الأمر الرباني. ركب دارون في عام 1831م إحدى سفن الاستكشاف الإنكليزية فجابت به على مدى خمس سنوات متواصلة مناطق كثيرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية والتي تعج بأنواع لا حصر لها من الكائنات الحية. ولقد كان دارون خلال هذه الرحلة الطويلة دائم البحث والنظر لا يترك نوعا من أنواع الكائنات الحية تقع عليه عينيه إلا وسجل صفاته وخصائصه ومواقع عيشه وأوجه الشبه بينه وبين بقية أنواع الكائنات بل تجاوز ذلك ودرس أشكال الحياة المنقرضة التي عثر عليها محفوظة على شكل متحجرات في طبقات الصخور. وبعد أن عاد دارون من رحلته المثيرة هذه مكث أكثر من عشرين سنة يدرس ويقارن أشكال الحياة التي شاهدها أثناء رحلته واضعا نصب عينيه هدف الوصول إلى تفسير مقنع لظهور هذا الكم الهائل من أشكال الحياة على الأرض. وقد توج دارون جهوده هذه بوضعه لأول نظرية بنيت على أسس علمية تجريبية وقد سميت هذه النظرية بنظرية التطور والتي قام بنشرها في كتابه الشهير “أصل الأنواع” وذلك في عام 1859م.
لقد حاول دارون من خلال هذه النظرية الإجابة على بعض التساؤلات التي دارت ولا زالت تدور في أذهان كثير من البشر حول الطريقة التي نشأت بها الحياة على الأرض والكيفية التي ظهر بها هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية. والعجيب أن لا يوجد بين هذه الملايين من أنواع الكائنات الحية إلا كائن واحد له القدرة على التفكير فيما حوله من مخلوقات وتثار في عقله مثل هذه التساؤلات. ومن المؤسف أن كثيرا من البشر يقومون بطرد هذه التساؤلات من عقولهم كي لا توصلهم الإجابة عليها إلى حقيقة أن هنالك خالقا لا حدود لعلمه وقدرته يقف وراء تصنيع هذه المخلوقات. وبتعطيل البشر لعقولهم ومنعها من التفكير في عجائب هذا الكون فإنهم يساوون أنفسهم ببقية الكائنات الحية التي لا هم لها إلا الأكل والشرب فينطبق عليهم قوله تعالى “أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا” الفرقان 44، والقائل سبحانه “وكأيّن من ءاية في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون” يوسف 105.
لم يهدف دارون من وضع نظرية التطور لهدم الأديان فلم يعرف عنه أنه كان ملحدا بل كان باحثا علميا أفتتن بظاهرة الحياة على الأرض وبهذا العدد الضخم من أنواع الكائنات الحية والتنوع الهائل في أحجامها وأشكالها وآليات حركتها وتكاثرها والحصول على رزفها وغير ذلك وكأنه يقرأ قوله تعالى “أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)” الشعراء. وقد قال في آخر كتابه عن إكتشافه ما نصه “وأن هناك شيئا من الفخامة في هذا المنظور للحياة، بالاشتراك مع قدراتها العديدة المختلفة، في أنه قد تم نفخها بواسطة الخالق بداخل العدد القليل من الأشكال أو في شكل واحد”. نعم! إن منتهى الإبداع أو الفخامة كما قال دارون في ظاهرة الحياة على الأرض أن الله عز وجل خلق كائن حي واحد من التراب مباشرة وأودع فيه برنامج تصنيع رقمي وعندما يشاء الله عز وجل خلق كائن جديد يعيد برمجة الشريط الوراثي بمواصفات الكائن الجديد. ومن المعلوم أن جميع الكائنات الحية بلا استثناء يبدأ تصنيعها من خلية واحدة تلقى في التراب أو في الأرحام أو في البيوض أو غير ذلك من الطرق. وفي المقابل يعتقد أنصار الخلق المباشر أن الله عز وجل قد خلق كل كائن حي مباشرة من التراب ولم تتطور الكائنات الحية من بعضها البعض. ونترك للقارئ أن يحكم على أي الطريفتين تليق بجلال الله عز وجل وتدلل على مدى إبداعه وإتقانه وما أمرنا للسير في الأرض إلا لكشف هذا الإبداع في الخلق. ويعجب دارون كذلك من موقف المعارضين لنظريته الذين يعتقدون أنها تتعارض مع معتقداتهم وتصوراتهم عن طريقة خلق الكائنات الحية فقال “وأنا لا أرى أي سبب وجيه في أن تسبب الأراء التي قد تم تقديمها في هذا الكتاب أي صدمة للمشاعر الدينية الخاصة بأي فرد فإنه من المرضي، على أساس أنه شيء يظهر مدى سرعة زوال مثل هذه الانطباعات، أن نتذكر أن أعظم اكتشاف قد تم إنجازه بواسطة الإنسان وهو بالتحديد القانون الخاص بقوة الجذب الخاصة بالجاذبية الأرضية قد تمت مهاجمته أيضا بواسطة “ليبنتز” على أساس أنه بمثل هذا القدر من التخريب للعقيدة الدينية الطبيعية وبالبديهة للعقيدة الموحاه”.
لقد اختلف الناس على مر العصور حول الكيفية التي نشأت بها الحياة على الأرض وكانت آراؤهم إما مبنية على أراء فلسفية بحتة أو مستندة إلى بعض الإشارات المذكورة في الكتب المقدسة. لقد كان الرأي السائد في العصور القديمة أن الكائنات الحية موجودة على الأرض منذ الأزل وبالأنواع والأشكال التي هي عليها الآن وقد قل أنصار هذا الرأي اليوم بعد أن أثبت العلماء بما لا يدع مجالا للشك بأن هذا الكون حادث وليس أزلي. وفي هذا العصر انقسم البشر إزاء نشأة الحياة إلى فريقين: فريق يقول أن الحياة نشأت نتيجة لتحول تراب الأرض بطريق الصدفة إلى كائنات حية بدائية بدأت بالتطور بشكل تدريجي لتنتج هذا الكم الهائل من أشكال الحياة ويلقب القائلون بهذا الرأي بالتطوريين. ويعتمد التطوريون في دعم موقفهم هذا على الطرق العلمية التجريبية في دراسة مختلف أشكال الحياة ابتداء من تركيب الخلايا الحية والمواد العضوية التي بنيت منها وإنتهاء بتركيب أجسام الكائنات الحية وكذلك السير في الأرض لدراسة مختلف أشكال الحياة. أما الفريق الآخر فيعتقد بأن الله هو الذي خلق جميع هذه الكائنات الحية بالأشكال التي هي عليها الآن من تراب الأرض مباشرة وفي فترة محددة من الزمن وينفون بشكل قاطع عملية تطور الكائنات من بعضها البعض ويلقب القائلون بهذا الرأي بالمؤمنين بالخلق المباشر. ولكن الخلقيين على عكس التطوريين لا يوجد عندهم تصور واضح للكيفية التي ظهرت بها الحياة على الأرض ويعتمدون في الغالب على تفسيرات القدامى ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنها رغم وجود نصوص كثيرة تحثهم على كشف أسرار نشأة الحياة.
لقد سبق القرآن الكريم دارون بما يزيد عن ألف ومائتي عام في طرحه لفكرة السير في الأرض كوسيلة لمعرفة الكيفية التي نشأت بها الحياة على الأرض وذلك في قوله تعالى “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثمّ الله ينشئ النشأة الأخرة إنّ الله على كلّ شيء قدير” العنكبوت 20. ومن المؤسف أن لا يمتثل البشر وخاصة المسلمون منهم لهذا الأمر الرباني فيسيروا في الأرض لمعرفة كيف بدأت عملية خلق الحياة من تراب هذه الأرض. وتقرر هذه الآية حقيقتين مهمتين أولهما أن هنالك بداية زمنية محددة ظهرت بها الحياة على الأرض وثانيهما أنه يوجد في الأرض من الأدلة ما يكفي لإرشاد البشر لمعرفة كيف نشأت هذه الحياة. وفي صيغة الماضي لكلمة بدأ إشارة صريحة إلى أن مرحلة تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة قد حدثت لمرة واحدة حيث لا يوجد ما يدل على استمرار حدوثها في الوقت الراهن. وفي قوله تعالى “ثمّ الله ينشئ النشأة الأخرة إنّ الله على كلّ شيء قدير” في نفس هذه الآية إشارة لطيفة إلى أن الطريقة التي سيتم بها إعادة خلق الكون بما فيه من مخلوقات بعد أن يفنيه الله في المرة الأولى ستكون من خلال قوله سبحانه له كن فيكون وذلك على عكس طريقة خلقه في المرة الأولى والتي امتدت على فترة محددة من الزمن ووفق قوانين أودعها الله هذا الكون. ويتأكد هذا المعني في قوله تعالى “والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا” نوح 17-18 وقوله تعالى “ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون” يس 51 وقوله تعالى “يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنّهم إلى نصب يوفضون” المعارج 43.
إن الهدف من وراء أمر الله البشر للسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق هو لعلم الله أن في بداية الخلق من الأسرار ما سيقنع كفار البشر بوجود قوة حكيمة عليمة تقف وراء عملية تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة. إن تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يتم بجهد فرد واحد بل يتطلب تضافر جهود عدد كبير من العلماء يجوبون أنحاء هذه الأرض يبحثون وينقبون عن مختلف أشكال الحياة فيها ثم يدرسون ويقارنون خصائصها لعل ذلك يقودهم إلى كشف سر نشأة الحياة. إن مثل هذا الدعوة للسير في الأرض لكشف سر بداية الحياة لا يمكن أن تصدر عن إنسان عاش قبل ألف وأربعمائة عام في وسط أمة أمية وفي بيئة صحراوية تخلو من كثير من أشكال الحياة. بل لا بد أنها صدرت عن عليم خبير يعلم تمام العلم أن في الأرض أعداداﹰ لا حصر لها من أشكال الحياة ويعلم أنه لا يمكن كشف الكيفية التي ظهرت بها الحياة على الأرض إلا من خلال السير فيها “قل سيروا في الأرض” ومن ثم رسم صورة متكاملة لهذه الكيفية “فانظروا كيف بدأ الخلق”. وممّا يؤكد على أن السير في الأرض هي الوسيلة الأمثل لكشف أسرار بداية الخلق هو أن فلاسفة البشر على كثرتهم لم يتمكنوا من الوصول إلى إجابة مقنعة حول هذا الموضوع بينما تمكن دارون في رحلة واحدة من كشف بعض هذه الأسرار. وبغض النظر عن مدى صحة النتائج التي توصل إليها دارون وأتباعه من بعده حول كيفية ظهور الحياة على الأرض فإن المنهج الذي انتهجوه للوصول لمعرفة كيف بدأ الخلق من خلال السير في الأرض هو المنهج الصحيح الذي كان على البشر أن ينتهجوه من قبل أربعة عشر قرنا. وإذا ما استمر علماء التطور في السير على هذه المنهج فإنهم سيجمعون من الأدلة والبراهين ما يقودهم لمعرفة الكيفية التي بدأت بها الحياة على الأرض وسيعلمون حينئذ أن الله هو الذي بدأ الخلق وهو الذي أشرف على كل جزئية من جزئيات هذا الخلق وصدق الله العظيم القائل “سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد” فصلت 53.
وعلى الرغم من أن محاولة دارون لمعرفة كيف تطورت الحياة على الأرض كانت المحاولة التحريبية الأولى في تاريخ البشرية إلا أنها جاءت بنتائج فيها من الحقائق العلمية ما جعلها تلقى تأييدا من قبل الأوساط العلمية وأصبحت تدرس في المدارس والجامعات. وفي مقابل هذا التأييد كان هنالك تنديدا من قبل الأوساط الدينية التي اعتبرت النتائج التي توصل إليها دارون ضربا من الكفر لأنها تتعارض مع الصورة المرسومة في أذهانهم عن الطريقة التي خلق الله بها الخلق. لقد أحدثت نظرية التطور ضجة كبيرة في الأوساط الدينية والعلمية ولا زال صدى هذه الضجة قائما إلى يومنا هذا حيث انقسم الناس إزاءها إلى فريقين فريق يؤيد النظرية وفريق يعارضها. ومنذ ظهورها في منتصف القرن التاسع عشر بدأت معركة لا زالت رحاها تدور بين الفريقين وقد نشر من الكتب والمقالات والندوات والمناظرات ما لا يمكن حصره. ومع انتشار استخدام الإنترنت بدأ الفريقان بنشر آرائهم من خلال مواقع عديدة أنشأوها لهذا الغرض.
إن أهم المساهمات التي قدمها دارون للعلم هي انتهاجه لأسلوب السير في الأرض كوسيلة لحل لغز ظهور الحياة على هذه الأرض وقد جاء منهجه هذا موافقا للمنهج الذي أمرنا الله بإتباعه وذلك في قوله سبحانه وتعالى “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”. أما المساهمة الثانية فهي وضعه لنظرية التطور والتي ملخصها أن جميع أنواع الكائنات الحية التي تعيش على سطح هذه الأرض اليوم قد تطورت من كائنات حية أقل منها تطورا وتستمر سلسلة التطور هذه نزولا إلى أن تنتهي إلى كائنات حية بدائية بسيطة التركيب خلقت من التراب مباشرة. أما المساهمة الثالثة فهي اقتراحه للآلية التي تمت بها عملية التطور هذه وهي ما سماها بعملية الانتخاب الطبيعي والتي مفادها أن الكائنات الحية عند تكاثرها قد تنتج أنواعا بخصائص تختلف عن خصائص أصولها فتعمل الطبيعة بظروفها ومواردها المختلفة على التحكم بمصائر هذه الأنواع فتبقي من يصمد على العيش عليها وتتخلص من الأنواع الضعيفة. لقد كانت بعض النتائج التي توصل إليها دارون من السطحية بحيث كان من السهل دحضها من قبل معارضيها بحجج ربما يكون بعضها أكثر سطحية. فقد قال معارضو نظرية التطور أن الانتخاب الطبيعي قد يغير من بعض خصائص النوع الواحد ولكنه لا يمكن أن ينتج أنواع جديدة من أنواع قديمة والدليل على ذلك هو صعوبة الحصول على كائنات حية جديدة من خلال تزاوج كائنات من نوعين مختلفين وإن حصل ذلك فإن الكائنات المهجنة الناتجة غالبا ما تكون عقيمة. ومن نقاط الضعف الشهيرة في نظرية التطور هي ما يسمى بالحلقات المفقودة حيث يقول معارضوها أنه إذا صح أن الكائنات الحية قد تطورت من بعضها البعض فلماذا لا يوجد بين المتحجرات أشكال انتقالية لكائنات حية تملأ الفجوة بين الأنواع الموجودة حاليا ككائنات لها صفات الزواحف وصفات الطيور أو كائنات لها بعض صفات القرود وصفات الإنسان وإلى غير ذلك من الكائنات. أما نقطة الضعف الرئيسية فهي أن تركيب مكونات الكائنات الحية على مختلف مستوياتها من التعقيد بحيث يستحيل أن تكون الصدفة قد وقفت وراء تصميم هذه التراكيب كما تبين ذلك للعلماء عند اكتشافهم لتركيب الخلية الحية وتركيب مكوناتها وتركيب المواد العضوية التي بنيت منها وكذلك في تركيب مختلف أجسام الكائنات الحية. ويقولون كذلك أنه إذا كانت الصدفة هي المحرك وراء عملية التطور فكيف يمكن لنا أن نفسر هذا الكمال وكذلك الجمال الذي نراه في تصميم أشكال الكائنات الحية كما نشاهد كذلك في أشكال الأسماك والطيور والحيوانات وأوراق وأزهار وثمار وبذور النباتات وكذلك أصداف وقواقع الرخويات وأجسام الحشرات والزواحف والفراشات.
لقد دفع هذا الهجوم المعاكس أنصار التطور لبذل مزيدا من الجهود لإثبات صحة هذه النظرية من خلال البحث عن أدلة جديدة أكثر عمقا من الأدلة التي استند عليها دارون. وقد ظهرت نتيجة لهذه الجهود عدة تخصصات في علم الأحياء تتعلق بنظرية التطور كعلم المتحجرات وعلم التشريح المقارن وعلم تطور الأجنة وعلم تصنيف الكائنات الحية وعلم الجينات. ففي علم المتحجرات انبرى فريق من علماء الأحياء للبحث عن أشكال الحياة في الأزمنة الغابرة فوجدوا ضالتهم في المتحجرات المحفوظة في طبقات صخور الأرض المختلفة. وقد تمكن العلماء من تحديد أعمار هذه المتحجرات بشكل تقريبي باستخدام طرق مختلفة كتحديد عمر طبقات الصخور التي وجدت فيها من خلال قياس كمية العناصر المشعة كاليورانيوم ونظائر البوتاسيوم والكربون. لقد قام علماء التطور برسم سلم لتطور الحياة على الأرض حددوا فيه أنواع الكائنات الحية التي ظهرت في مختلف الحقّب والعصور والعهود الزمنية التي حددها علماء الجيولوجيا. وقد وجدوا أن أقدم الطبقات الصخرية تحتوي على كائنات حية بسيطة التركيب بينما تحتوي الطبقات الأحدث على كائنات حية أكثر تعقيدا ممّا يؤكد على أن الكائنات الحية لم تخلق دفعة واحدة كما يعتقد بعض أنصار الخلق المباشر بل تم خلقها بشكل تدريجي. وقد وجدوا أن أول الكائنات الحية ظهورا كانت على شكل خلية حية لها نواة بدائية وكان ذلك قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون سنة أما الخلية ذات النواة الحقيقية فقد ظهرت قبل ألف وخمسمائة مليون سنة. وأما الكائنات متعددة الخلايا فقد ظهر أول أشكالها قبل ستمائة مليون سنة والأسماك قبل أربعمائة مليون سنة والحشرات والزواحف قبل ثلاثمائة وخمسين مليون سنة والثدييات قبل ستين مليون سنة والإنسان الحديث قبل عشرين ألف سنة. وفي علم التشريح المقارن وجد العلماء أن التشابه بين الكائنات الحية من حيث شكلها الخارجي وتركيب أعضائها الداخلية يزداد كلما ازدادت درجة القرابة بينها ممّا يدل على أن كل مجموعة من أنواع الكائنات لا بد أن تلتقي في أصل واحد. وبعد أن اكتشف علماء الأحياء أن خلايا مختلف أنواع الكائنات ابتداء بالبكتيريا وانتهاء بالإنسان لها نفس التركيب وتستخدم نفس الآليات في عملياتها الحيوية المختلفة استفاد التطوريون من هذا التشابه لدعم موقفهم وهو أن أصل هذه الكائنات لا بد أن يكون واحد.
أما الاكتشاف الذي أصاب علماء التطور بصدمة كبيرة فهو اكتشاف الشيفرات الوراثية في منتصف القرن العشرين حيث تبين أن جميع مواصفات تصنيع الكائن الحي قد تم كتابتها بطريقة رقمية على شريط الحامض النووي الموجود في كل خلية من خلاياه. وقد تبين للعلماء أن جميع أنواع الكائنات الحية يبدأ تصنيعها من خلية واحدة تنقسم بشكل متكرر تحت سيطرة هذا الشريط الذي يقوم بتصنيع كل جزء من أجزاء هذا الكائن. وقد اكتشف العلماء أن المعلومات الوراثية مكتوبة على هذا الشريط بنفس الطريقة الرقمية التي يتم بها تخزين المعلومات في أجهزة الحاسوب حيث أنها تتكون من سلسلة طويلة من الأحرف مقسمة إلى شيفرات. ويعود سبب هذه الصدمة إلى اكتشافهم أنه لا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحي مهما بلغت بساطة تركيبه إلا من خلال تعديل المعلومات المكتوبة على هذا الشريط. وهذا يعني أن عملية تطور أيّ كائن حي إلى كائن حي آخر يتطلب إعادة كتابة برنامج التصنيع الرقمي المخزن على شريط الحامض النووي وهذا يتناقض تماما مع التصورات التي وضعها دارون لعملية تطور الكائنات. وبعد هذا الاكتشاف العظيم اضطر علماء التطور لتعديل نظرية التطور التي وضعها دارون بشكل يتناسب مع معطيات هذا الاكتشاف وقد أطلقوا اسم نظرية التطور الحديثة على هذه النظرية المعدلة. وتعتبر الطفرات الوراثية وما يسمى بالانجراف الجيني أهم آليات التطور في هذه النظرية الجديدة وذلك بعد أن تبين أن آلية الانتخاب الطبيعي تلعب دورا هامشيا في عملية التطور. وعلى الرغم من هذه الصدمة الكبيرة إلا أن علماء التطور وجدوا في الشريط الوراثي من الحقائق ما يعزز موقفهم فالحقيقة الأولى هي أن الشيفرة الوراثية في جميع الكائنات الحية لها نفس الطول وهو ثلاثة أحرف ومكتوبة بنفس نوع الأحرف التي يبلغ عددها أربعة أحرف وهذا يعني أن جميع الكائنات الحية لا بد أن تكون قد تطورت من أصل واحد. والحقيقة الثانية أنه عندما قام العلماء بمقارنة أشرطة الحامض النووي للكائنات الحية المختلفة لقياس درجة القرابة بينها تبين لهم أن التشابه بين هذه الأشرطة يزداد بين الكائنات ذات القرابة الكبيرة. وفي المقابل استفاد أنصار الخلق المباشر من اكتشاف الشريط الوراثي فقالوا أنه بناء على نظرية الاحتمالات فإنه من المستحيل على الصدفة أن تكتب برامج التصنيع المخزنة على الشريط الوراثي لأبسط أنواع الكائنات الحية وهي الفيروسات فأنى لها أن تكتبه لملايين الأنواع من الكائنات الحية وكذلك الإنسان التي يبلغ طول شريطه ثلاثة آلاف مليون حرف.
لقد ذكرنا آنفا أن أكثر الرافضين لنظرية التطور هم من أنصار الخلق المباشر وذلك بسبب ظنهم أن الطريقة التي خلق الله بها الكائنات الحية كما وردت في الكتب المقدسة تتعارض مع الطريقة التي تقترحها نظرية التطور. وإذا كان هنالك من مبرر لعلماء الأديان السماوية السابقة في رفض نظرية التطور فلا يوجد ما يبرر رفض هذه النظرية جملة وتفصيلا من قبل علماء المسلمين. فالكتب السماوية السابقة تكاد تخلو من النصوص التي تدعم مثل هذه التطور بينما نجد في القرآن الكريم عشرات الأيات التي تصرح بوجود مثل هذا التطور. وسنشرح في ما يلي موقف القرآن الكريم من بعض المسائل المتعلقة بنظرية التطور وسيتضح للقاريء أن القرآن الكريم يشير بشكل واضح إلى وجود مثل هذا التطور في كل ما خلق الله من مخلوقات. ولنبدأ بالمسألة الخلافية الأولى وهي مسألة المدة الزمنية التي استغرقها خلق الكائنات الحية حيث يقول أنصار التطور أنها امتدت على مدى آلاف الملايين من السنين بينما يقول رافضو نظرية التطور أن عملية خلقها قد تمت على مدى ستة أيام من أيامنا هذه وذلك قبل ستة آلاف سنة فقط وقد يعتقد بعضهم أنها امتدت على مدى ستة آلاف سنة على اعتبار أن طول كل يوم من أيام الخلق الستة يبلغ ألف سنة. إن هذا الخلاف قد حسم لصالح أنصار التطور وذلك من خلال تقدير أعمار المتحجرات بطرق علمية حديثة لا يمكن التشكيك في صحتها وقد بينت وجود كائنات حية على الأرض قبل ملايين أو بلايين السنين. أما القرآن الكريم فقد أكد في آيات كثيرة على أن قياس الزمن عملية نسبية وأن طول الأيام المذكورة في الكتب المقدسة قد تكون ألف سنة وقد تكون خمسين ألف سنة وقد تكون أقل من ذلك أو أكثر وذلك في قوله تعالى “وإنّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدون” الحج 47 وقوله سبحانه “تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” المعارج 4. وعندما يقرر الله في كتابه الكريم أنه خلق السموات والأرض في يومين وقدر أقوات الأرض في أربعة أيام فمن المؤكد أنها ليست بطول أيامنا الأرضية بل هي من أيام الله التي قد يصل طول اليوم فيها إلى بلايين السنين. فمن غير المعقول أن تتكون النجوم والمجرات من الدخان في يومين من أيامنا هذه ولا أن تتحول الأرض البدائية الملتهبة إلى أرض صالحة للحياة في أربعة أيام أرضية.
أما المسألة الخلافية الثانية فهي عملية التطور أو التدرج في كل ما خلق الله من مخلوقات فأنصار التطور يقولون أن مخلوقات الكون قد بدأت من أشكال بسيطة تطورت مع مرور الزمن إلى هذه الأشكال المعقدة التي هي عليها الآن. أما أنصار الخلق المباشر فيقولون أن الله قد خلق الأشياء بالصورة التي هي عليها الآن منذ بداية خلقها وينفون أيّ شكل من أشكال التطور. أما القرآن الكريم فقد صرح في ءايات كثيرة أن كل ما في هذا الكون من مخلوقات قد تم خلقها بشكل تدريجي فالسموات والأرض لم يخلقها الله من خلال قوله لها كوني فكانتا في لحظة واحدة، وهو القادر على ذلك، بل خلقها على مدى يومين من أيامه سبحانه. فهذان اليومان يمثلان المدة الزمنية التي استغرقها تحول الدخان (الجسيمات) الذي كان يملأ الفضاء إلى هذا العدد الهائل من المجرات والنجوم والكواكب مصداقا لقوله تعالى “ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم” فصلت 11-12. وفي قبول السموات والأرض لأن يتكونا طوعا وليس قسرا إشارة إلى أن هذا التحول قد تم وفق القوانين التي أودعها الله مادة هذا الكون ولو شاء الله أن يتكونا قسرا وفي لحظة واحدة لما أعجزه ذلك مصداقا لقوله تعالى “إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” يس 82. وبغض النظر عن طول هاذين اليومين فإن هذه الآية تؤكد على تطور الكون من الحالة الدخانية التي كان عليها في بداية اليومين إلى أن اكتمل بناء السماوات السبع والأرض. ومن الواضح أن الحال الذي كان عليه الكون في كل لحظة من لحظات هاذين اليومين غير الحال الذي كان عليه في اللحظات الأخرى وإن ما يقوم به علماء تطور الكون هو معرفة هذه الأحداث التي مر به الكون منذ الإنفجار العظيم. إن إعتقاد علماء فيزياء الكون بأن أحداث تطور الكون تحكمها الصدفة لا يمنعنا كمسلمين من تصديق نظرياتهم ولولا جهود هؤلاء العلماء لما عرفنا حالة الكون الدخانية عند بداية خلقه والذي جاء مصدقا لما جاء في القرآن الكريم.
وكما أن عملية تكون الأرض الأولية قد تمت في يومين من أيام الله فإن عملية تجهيزها لتكون مهيأة لظهور الحياة عليها قد تمت على مدى أربعة أيام تم خلالها تكون القشرة الأرضية ونشوء القارات والمحيطات والجبال والأنهار والغلاف الجوي وانتظام دورة الليل والنهار وظهور الحياة الأولية عليها ومن ثم خلق النباتات والحيوانات بمختلف أنواعها وذلك مصداقا لقوله تعالى “قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين” فصلت 9-10. وقد تمكن علماء الجيولوجيا من خلال دراستهم لتركيب الأرض معرفة كثير من الأحداث التي مرت بها خلال تطورها من شكلها البدائي إلى أن أصبحت على الصورة التي هي عليها الآن وقد تبين لهم أن عملية التطور هذه قد استغرقت بلايين السنين. وكما هو الحال مع علماء تطور الكون فإن علماء تطور الأرض يعزون هذه الأحداث للصدفة ولكن هذا الاعتقاد لا يدعونا كمؤمنين إلى تكذيب نظرياتهم بل بالعكس فقد ساعدتنا هذه الحقائق على فهم قول الله تعالى “والجبال أوتدا” النبأ 7 وقوله تعالى “وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم” الأنبياء 31 وإلى غير ذلك من الآيات القرآنية.
أما المسالة الخلافية الأكثر جدلا فهي تلك المتعلقة فيما إذا كانت الكائنات الحية قد تم خلقها دفعة واحدة وبالأشكال التي عليها الآن وعلى مدى أسبوع من الزمن فقط كما يؤمن أنصار الخلق المباشر أم أن هناك أصلا واحدا لجميع هذه الكائنات قد تم خلقه من التراب مباشرة ومنه تطورت جميع أشكال الحياة على مدى بلايين السنين كما يعتقد أنصار التطور. ويستند أنصار الخلق المباشر في دعم رأيهم إلى النصوص الواردة في الكتب المقدسة والتي تقول أن أصل البشر وهو آدم عليه السلام قد خلق من التراب مباشرة وبالقياس فإن جميع أنواع الكائنات الحية قد خلقت أصولها من التراب مباشرة. ومن الواضح أن هذا الرأي لا يستند إلى أيّ دليل علمي بل يعتمد على تفسيرات علماء الدين للنصوص الواردة في الكتب المقدسة والتي ثبت خطأ كثير منها. ومما يدعوا للإستغراب أن كثيرا من أنصار الخلق المباشر لا يرفضون النظريات التي وضعها علماء الفيزياء لتطور الكون وعلماء الجيولوجيا لتطور الأرض رغم أن هؤلاء العلماء يعزون هذا التطور للصدفة ولكنهم في المقابل لا يقبلون النظريات التي وضعها علماء الأحياء لتطور الحياة على الرغم من أن خلق السماوات والأرض أعقد من خلق الكائنات الحية مصداقا لقوله تعالى “لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون” غافر 57. وعلى الرغم من أن القرآن الكريم لم يذكر الأطوار التي مر بها خلق مختلف أنواع الكائنات الحية إلا أنه ذكر بشيء من التفصيل الأطوار التي مر بها خلق الإنسان الذي هو أشرف هذه الكائنات. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق أشرف مخلوقاته وهو الإنسان بهذه الطريقة التدريجية ابتداء من التراب فلا بد أنه سبحانه خلق بقية الكائنات الحية بنفس هذه الطريقة. وإذا كان هناك خلاف بين الفريفين حول المكان الذي تم فيه خلق آدم عليه السلام أهو في الجنة أم على الأرض فلا أظن أن أنصار الخلق المباشر يخالفون أنصار التطور من أن جميع أنواع الكائنات الحية قد تم خلقها على الأرض. بل إن الآيات القرآنية تؤكد على أن عملية خلق الإنسان من التراب قد تمت على الأرض وذلك في قوله تعالى “هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم” النجم 32 وقوله تعالى “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” هود 61 وقوله تعالى “والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا” نوح 17-18.
لقد أكد القرآن الكريم على أن أول مراحل خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية هي مرحلة تحول تراب الأرض إلى طين مصداقا لقوله تعالى “وبدأ خلق الإنسان من طين” السجدة 7. ولم يتوقف القرآن عند ذكر البداية التي بدأ منها خلق الإنسان بل تعداها إلى ذكر مراحل أخرى مر بها الطين أثناء تحوله إلى أول أشكال الحياة. ومن هذه المراحل مرحلة الحمأ المسنون وهي مرحلة امتلأ بها هذا الطين بالمواد العضوية البسيطة التي تكونت في جو الأرض الأولي فأصبح كالماء الآسن الذي تفوح منه الروائح الكريهة مصداقا لقوله تعالى “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون” الحجر 26. ومنها مرحلة الصلصال وهي مرحلة حدثت بعد مرحلة الحمأ المسنون حيث ترسبت المواد العضوية البسيطة على سطح الصلصال لتكون مواد عضوية أكثر تعقيدا مصداقا لقوله تعالى “خلق الإنسان من صلصال كالفخار” الرحمن 14. وأما المرحلة الأخيرة من مراحل الخلق فهي مرحلة سلالة الطين والتي كانت البداية التي انطلقت منها الحياة في أول أشكالها مصداقا لقوله تعالى “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين” المؤمنون 12. ومن الغريب أن يرفض أنصار الخلق المباشر من المسلمين فكرة تطور خلق الإنسان من التراب على الرغم من تأكيد الله سبحانه وتعالى على أنه خلق الإنسان على مراحل فمن طور الطين اللازب إلى طور الحمأ المسنون إلى طور الصلصال إلى طور السلالة الطينية. وقد أشار القرآن الكريم بشكل صريح لمثل هذا التطور كما في قوله تعالى “مالكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا” نوح 13-14. إن معرفة الأطوار التي مر بها خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية وما في هذه الأطوار من أسرار إنّما هو توقير لله الذي خلقها وما تذكير الله الإنسان بهذه الأطوار إلا لحث البشر على البحث عن هذه الأسرار.
يقدر العلماء عدد أنواع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض اليوم بين مليونين وخمسة ملايين نوع أما عدد الأنواع المنقرضة فيقدرونها ما بين خمسة ملايين وخمسة عشر مليون نوع وإن كثيرا من هذه الأنواع لا يرى بالعين المجردة كالبكتيريا والفيروسات. ولو أن عملية خلق الكائنات الحية قد تمت على حسب ما يتصور أنصار الخلق المباشر وهي أن الله قد شكل الطين على هيئة إنسان أو أي كائن آخر ثم تركه ليجف ثم نفخ فيه الحياة ليصبح كائن حي من لحم ودم لتطلب الأمر أن يقوم سبحانه وتعالى يبناء ملايين المجسمات لمختلف أنواع الكائنات الحية ثم قام بنفخ الحياة فيها. إن الله سبحانه وتعالى أعز وأجل من أن يستخدم هذه الطريقة البدائية لخلق مخلوقاته بل خلقها بطريقة بالغة الذكاء تمكن علماء التطور من كشف بعض أسرارها فأصيبوا بالدهشة والذهول من عبقرية هذه الطريقة وسيعترفون عاجلا أم أجلا بأن هذه الطريقة لا يمكن أن تصدر إلا عن صانع لا حدود لعلمه وقدرته. أما بخصوص المدد الزمنية التي استغرقتها هذه المراحل فإن أنصار الخلق المباشر لا جواب عندهم حولها أما أنصار التطور فقد استطاعوا من خلال السير في الأرض تحديد هذه المدد بشكل تقريبي ووجدوا أنها تقدر بملايين السنين ولولا أن هذا المدد بهذا الطول لما استدعى الأمر أن يذكرها الله في كتابه العزيز بقوله سبحانه “هو الذي خلقكم من طين ثمّ قضى أجلا وأجل مسمّى عنده ثمّ أنتم تمترون” الأنعام 2 والقائل سبحانه “هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا” الإنسان 1. لقد حددت الأيات القرآنية الخطوط العريضة لعملية تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحياة وسنبين في مقالات قادمة ما هو المقصود بهذه المراحل على ضوء الحقائق العلمية التي اكتشفها علماء التطور وسيندهش القاريء عندما يكتشف أن الأسماء التي أطلقها هؤلاء العلماء على مراحل الخلق هي نفسها التي وردت في القرآن الكريم.
يطلق علماء التطور على مرحلة تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحياة اسم مرحلة التطور الكيميائي للحياة أما المرحلة الثانية للتطور فهي مرحلة تحول هذا الكائن البدائي المكون من خلية إلى جميع أشكال الحياة التي نشاهدها على الأرض اليوم. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يؤكد حدوث مثل هذا التطور في خلق الكائنات الحية كقوله تعالى “سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون” يس 36 والتي تشير إلى أن الله خلق جميع أنواع الكائنات الحية مما أنبتته الأرض من أشكال الحياة البدائية. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف من أن الكائنات الحية لم تظهر دفعة واحدة على هذه الأرض بل أن بعضها قد ظهر قبل البعض الآخر فقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد عصر يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل” رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. لقد صنف هذا الحديث الكائنات الحية إلى ثلاثة أصناف وهي النباتات (الشجر) والميكروبات (المكروه) والحيوانات (الدواب والإنسان) وهذا التصنيف يتطابق مع التصنيف الذي وضعه علماء الأحياء للكائنات الحية حبث صنفوها إلى كائنات منتجة (النباتات) وكائنات محللة (الميكروبات) وكائنات مستهلكة (الحيوانات). وعند مقارنة تاريخ ظهور الكائنات الحية كما ورد في الآيات القرآنية وهذا الحديث النبوي مع التواريخ التي حددها علماء التطور نجد أن هناك توافقا كبيرا بينهما. وبما أن علماء الجيولوجيا قد قدروا عمر الأرض بعد أن تصلبت قشرتها بأربعة آلاف وستمائة مليون سنة فإن طول كل يوم من أيام التهيئة الأربعة يزيد قليلا عن ألف مليون سنة. فالنباتات في أبسط أشكالها وهي الطحالب ظهرت في اليوم الثالث من أيام الخلق أيّ بعد انتهاء اليوميين الذين خلق الله فيهما الأرض الأولية وفي أول الأيام الأربعة التي هيأ الله فيها الأرض وهو ما يتوافق مع تقديرات علماء التطور الذين يقولون أن الكائنات الحية الأولية كالطحالب ظهرت على الأرض قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون سنة. ويحدد الحديث الشريف فترة ظهور الميكروبات أو ما سماه بالمكروه في اليوم الثاني من أيام التهيئة واليوم الرابع من أيام خلق الكون الذي يمتد ما بين ثلاثة آلاف وألفي مليون سنة. أما أبسط أشكال الحيوانات فقد ظهرت في اليوم الثالث من أيام التهيئة واليوم الخامس من أيام الخلق وذلك بعد أن استقرت دورة النظام البيئي بوجود كل من الكائنات المنتجة وهي النباتات والكائنات المحللة وهي الميكروبات. وقد جاءت جملة بث فيها الدواب معبرة تمام التعبير عن ما اكتشفه علماء التطور من أن ظهورا مفاجئا لأنواع مختلفة من الكائنات الحية قد حدث في بداية العصر الكامبري قبل ما يقرب من ستمائة مليون سنة أيّ في اليوم الرابع من أيام التهيئة واليوم الأخير من أيام الخلق.
إن اختلاف فريقين على مسألة ما لا يعني أن أحدهما على حق تام والآخر على باطل تام فقد يكون بعض الحقيقة مع كل منهما وهذا هو الحال مع المسألة المتعلقة بالكيفية التي ظهرت بها الحياة على سطح الأرض. فأنصار نظرية التطور على حق من حيث أن المنهج الذي اتبعوه في إثبات نظريتهم هو نفس المنهج الذي أمرنا الله باتباعه منذ أربعة عشر قرنا وأن الأدلة التي اعتمدوا عليها في دعم نظريتهم تستند إلى أسس علمية تجريبية فيها من الحجج ما يكفي لإقناع من عنده أدنى خلفية في العلوم الحديثة. ولكن أنصار نظرية التطور تنكبوا طريق الحقّ في قولهم أن الصدفة كانت تقف وراء نشأة الحياة على الأرض ووراء عملية نشوء وتطور الكائنات الحية. ولكن مع اكتشاف التعقيد البالغ لتركيب الخلايا الحية والعمليات الحيوية التي تجري فيها وكذلك الطريقة الرقمية التي كتبت بها المعلومات الوراثية بدأ كثير من علماء التطور بالاعتراف باستحالة حدوث هذا العدد الكبير من الصدف لكي تظهر الحياة على الأرض. وقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد أشهر علماء الأحياء وهو عالم الأحياء فرانسيس كريك الذي نال في عام 1962م جائزة نوبل في الفسيولوجيا مشاركة مع عالمين آخرين تقديرا لاكتشافهم تركيب شريط الحامض النووي حيث قال في كتابه( طبيعة الحياة): إن الرجل الأمين المسلح بكل المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أن نشأة الحياة تبدو شيئا أقرب ما يكون إلى المعجزة. أما أنصار الخلق المباشر فهم على حق من حيث استحالة أن تكون الصدفة قد وقفت وراء ظهور الحياة على الأرض بل لا بد من وجود صانع لا حدود لعلمه وقدرته قام بخلق كل جزئية من جزئيات هذا الكون بما فيها الكائنات الحية. ولكنهم في المقابل قد أخطأوا في إصرارهم على أن الأرض وما عليها من كائنات حية لا يتجاوز عمرها ستة آلاف سنة وأن كل كائن من هذه الكائنات قد تم خلقه بشكل مستقل مباشرة من تراب الأرض. لقد أدى إصرار الخلقيين على رأيهم هذا رغم الأدلة العلمية الدامغة التي تدعم نظرية التطور إلى زرع الشك في قلوب بعض أتباع الأديان وجعلت كثيرا منهم أقرب للكفر منهم للإيمان بسبب هذا التناقض بين الحقائق العلمية التي يدرسونها في مدارسهم وجامعاتهم وتفسيرات علماء الدين للكيفية التي نشأت بها الحياة على الأرض.
لقد حذر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله قبل ألف عام علماء الدين من مغبة إنكار الحقائق العلمية اعتمادا على التأويلات الخاطئة لنصوص الكتب المقدسة لما في ذلك من ضرر على الدين. وعلى الرغم من أن الغزالي قام بتأليف كتاب تهافت الفلاسفة لدحض كثير من أراء الفلاسفة إلا أنه لم ينكر علومهم التي تعتمد على أسس علمية واضحة ومما قاله بهذا الشأن “القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل. فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (( ان الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى ذكر الله والصلاة)) ، فكيف يلائم هذا ماقالوه؟ قلنا: وليس فى هذا ما يناقض ما قالوه ، اذ ليس فيه الا نفى وقوع الكسوف لموت احد او لحياته والامر بالصلاة عنده. والشرع الذى يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟ فان قيل: فقد روُى انه قال فى آخر الحديث: (( ولكن الله اذا تجلىّ لشىء خضع له)) فيدلّ على ان الكسوف خضوع بسبب التجلى، قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وانما المروى ما ذكرناه كيف، ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد. وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان الشرع امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى البحث الالهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت”.
وأخيرا على علماء الدين المسلمين أن يتخذوا من نصيحة هذا العلامة الفذ أبو حامد الغزالي منارة يهتدون بها وهم يعيشون في عصر فتح الله به جميع أبواب المعرفة على البشر وأن لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه علماء الدين من أهل الكتاب من إنكار نظرية التطور جملة وتفصيلا. ولو أن نشأة الحياة كانت على نحو ما يتصور أنصار الخلق وهي أن الله قد خلق كل كائن من الكائنات الحية التي تعد بالملايين مباشرة من التراب لما أمر الله البشر بالسير في أنحاء الأرض لكي يكتشفوا هذه الكيفية المليئة بالأسرار. إن في تتبع عملية تطور ملايين الكائنات الحية من بعضها البعض ومعرفة الأصول التي تلتقي عندها إلى أن تجتمع في أصل واحد ومن ثم دراسة الكيفية التي نشأ بها هذا الأصل من التراب من الأسرار العجيبة ما يقنع البشر بأن هنالك قوة لا حدود لعلمها وقدرتها تقف وراء عملية خلق المخلوقات بهذه الطريقة. ومن الجدير بالذكر أن كثيرﴽ من علماء أهل الكتاب بدءوا بالتراجع عن اعتقادهم بأن مدة خلق الكون بما فيها من مخلوقات قد تم في ستة أيام من أيام البشر وقبل ستة آلاف سنة فقط بل قاموا بالتصديق بكثير من الحقائق التي اكتشفها علماء التطور ولكنهم يختلفون معهم فيمن يقف وراء عملية التطور هذه. وقد وضع فريق منهم نظرية جديدة تتعلق بخلق مخلوقات هذا الكون أطلقوا عليها اسم التصميم الذكي وهي أن الله قد صمم هذا الكون بكامل تفاصيله على الصورة التي أرادها له ولكن عملية خلق مكونات هذا الكون قد تمت بشكل تدريجي طبقا للطريقة التي اكتشفها العلماء في هذا العصر وقد جاء هذا الرأي لأنصار التصميم الذكي موافقا ومعبرا تمام التعبير لقول الله تعالى “قال ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى” طه 50.
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية