جهاد الرنتيسي
قد يكون إبداع نص للفتيان من أصعب أشكال الكتابة، يتجنبه الأكثر حرفة بين الروائيين والقاصين لأسباب متداولة منذ زمن، وأخرى فرضتها تطورات العصر المتوجة بثورة معلومات أحدثت مناخات استخفاف بالكتابة، عادات جديدة للقراءة، وسبلا مختلفة للمعرفة.
بين الأسباب المتداولة طبيعة تفكير الفئة العمرية التي نحن بصددها، فهي تمثل نقطة التحول بين خيال الطفولة والخيالات الأكثر نضجا، وبما أن ذهنيتها قيد التشكل تعد الأكثر قدرة على الالتقاط، وعلاوة على ذلك فإن فئة الفتيان المرشح الأكثر ديناميكية لإحداث التغيير في المجتمعات.
أضيف الى ذلك أن فئة الفتيان الأكثر تجاوبا مع ثورة المعلومات، والأشد تأثرا بإفرازاتها المنظورة وغير المنظورة، لكنها ظلت خارج الاهتمام الفعلي، في مجتمعات تركز على المضاعفات بدلا من معالجة أسباب الظواهر.
تكفي هذه المعطيات لفرض أداء مختلف على المبدع، عند عمله على نص يحاكي هذه الفئة العمرية، يراعي متطلبات القدرة على الوصول إلى المتلقي، والإبقاء على حيز اهتمامه بالمكتوب في ظل تعاظم حضور المرئي، وإحداث أكبر قدر ممكن الأثر.
يظهر اختلاف الأداء واضحا من خلال الخطاب الروائي الذي تقدمه الكاتبة صفاء الحطاب، ولا يغيب عن أسلوب السرد، ومسار أحداث روايتها “لصوص الآثار” المشغولة بعناية لمخاطبة ذائقة وخيال الفئة المستهدفة.
سلكت الكاتبة في روايتها طرقا سردية بعيدة ـ الى حد ما ـ عن التعقيدات المتبعة في تقنيات ما بعد الحداثة المثيرة لإغراء المبدعين، والفاتحة لشهية النقاد، لاسيما أنها تفوق في كثير من الاحيان قدراتهم المعرفية والإدراكية، وتتعارض مع أنماط تفكير تراوح في أمكنتها منذ عقود، وتتكئ على كليشيهات جاهزة، أفرزتها نظريات لم تصمد طويلا في سجالات مدارس النقد الغربي.
لم تَحل بساطة الأسلوب الذي يراعي خصوصية المتلقي ـ والخطاب المستخدم في الرواية ـ دون الالتفات الى ضرورة إدخال تنويعات على السرد، لغايات شد القارئ، وتجنيبه الملل، حيث استخدم التداعي في وصف العالم الذي كانت تمثله الآثار وإبراز بعض جوانب الحضارة الفرعونية التي تشكل محور وفضاء العمل.
جاء الاستخدام أحيانا في سياق إظهار التباين بين الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية، حيث بدت شخصية بدوي أقرب إلى الواقعية قياسا بخيالات سيد ونزوعه إلى المغامرة، وفي أحيان أخرى للانتقال بين الأزمة.
يتحرك أسلوب السرد في فضاء لغوي يتناغم معه كما جرت العادة، حيث عملت الكاتبة في روايتها على التكثيف والاختصار وسهولة العبارة لضمان بقاء المتلقي في مناخات الأحداث.
أبقت بساطة السرد ووضوح اللغة على لعبة التشويق المفترض وجودها في العمل الروائي الناجح، واخذت هذه اللعبة أشكالا مختلفة، يمكن التقاطها بسهولة خلال التنقل بين أحداث الرواية.
حافظت الكاتبة على توتر شخصياتها، ظهر ذلك في طبيعة الحوار بين الشخصيتين الرئيسيتين سيد وبدوي، انفعالات ما بعد اكتشاف خطأ السير مع تيار الماء، وظل حاضرا بشكل أو بآخر في تفاصيل اندفاعات (أدوين) و(كارولين)، وفهلوة مصطفى باشا الذي أوصله جشعه إلى الهاوية.
تأخذ لعبة التشويق منحى توظيف الخيال في بعض أجزاء الرواية، حيث يشطح سيد بإطلالته على عالم الفرعون والوقوف على حافة تقمص شخصيته، حين يرى نفسه في عالم الكنوز والأموال، يتزين بأندر الأحجار الكريمة وأجملها، ويجلس في قصر منيف، محاطا بالخدم والحرس من كل جانب.
يجد سيد نفسه جزء من حدث تاريخي في قرية دندرة، يهيء له المكان، مناخات وظروف الشعور بالذنب والخوف، وما تيسر له من معرفة بعالم الفراعنة أجواء كوابيس محاكمة افتراضية.
الأسطورة حاضرة بقوة في الرواية من خلال بعديها التشويقي والمعرفي، تظهر بأشكال متفاوتة، لا ينقصها الإبهار والترهيب، فهي حضارة قديمة، علم متجاوز للزمن تحتاج البشرية الى استحضاره وتعميم فائدته، خزين حكمة، قوة عدالة وقانون، ولعنة تلاحق البشر.
تجاوز البعد المعرفي المحتوى ليأخذ منحى الإثارة والتشويق في بعض جوانب الرواية، حيث تناغمت المعلومة مع عنصر المفاجأة خلال السرد، لتبقي المتلقي في حالة من التأهب للاكتشاف.
تطلب هذا الجانب جهدا بحثيا، توزع على أكثر من تفصيلة، ليشمل (تشامبليون) الذي عرف بتفكيكه لرموز لوحة رشيد الحجرية، أهمية قراءة شيفرات الهيروغليفية، وسوق الأقصر المفتوح للمهتمين بالحضارة المصرية القديمة.
يتسع حضور المعرفي ليرتبط بالأخلاقي مع الإيغال في شرائع الفراعنة، حيث تميز الملكة (حتحور) بين النادم والخاطئ، لتتيح لسارق الآثار التوبة من خلال الاغتسال في مياه نهر النيل والعودة إلى فلاحة الأرض.
وفي الخاتمة تنهي الكاتبة أحداث روايتها باظهار فداحة سرقة الآثار والاتجار بها، تكريس الضمير باعتباره عائقا أمام ارتكاب الخطايا ودافعا للتوقف عن الاستمرار فيها، دون الدخول في الوعظ الساذج، أو التحريض الأمني على اللصوص والمهربين.
قدم نص “لصوص الآثار” نموذجا لرواية الفتيان القادرة على مخاطبة فئة محددة من القراء، وربما استقطاب قراء جدد، مع مراعاته الشرطين المعرفي والفني للرواية، غِناه بمحفزات القراءة، وتجنبه التقصير في جذب المتلقي، رغم ازدحام العالم بنوافذ المعرفة الأكثر سهولة، والمتع البصرية.