أ. سعيد ذياب سليم
للزعتر حكاية أخرى
لم أكن أعلم أنني أحمل زعترا في صدري ولم أكن أعلم أنه سينقلب ضدي و يهاجم عيني و أجزاء أخرى بل يتطاول ليشق صدري، يا للسخرية ! تعزف الحياة لحنا صاخبا أحيانا يفاجئك إيقاعه السريع المتلاحق الذي يقطع الأنفاس فتقف حائرا بين الشك و الريبة.
في إحدى جلسات العائلة رأيتهم يتهامسون يميلون إلى بعضهم و يتساءلون: لماذا هذه الحركة الغريبة على شفتيه و عضلات وجهه ؟ بل أن جفونه تهدلت و كادت أن تغلق عينيه.
بدأت أشعر بهذه الأعراض منذ بعض الوقت، اعتقدت أنه إرهاق يصيب العين من شدة التحديق في شاشة الكمبيوتر، نظرة غير طبيعية أرى فيها الأشياء مزدوجة عند النظر في زاوية جانبية، معاناة من وهج الظهيرة، دموع تنهمر بغير ذي سبب، قاومت ذلك بلبسي نظارة ذات لون غامق و قبعة رياضية للحماية من الشمس وعندما وجدتني أفعل ذلك في الليل و تحت مصباح الإنارة شعرت بالرعب .
انطلقت في رحلة التشخيص من عيادة النظر أدور بين أجهزة و عدسات و أضواء تبهر العين فتصاب بعمى لحظي حتى تنقشع سحابة الضوء ، لم يكن هناك عيب في العينين فاقترح أحد الأطباء فحص الجليد “Ice Test” وضع على عيني كتلتي جليد لبعض الوقت ثم طلب مني فتحهما لأجد أن فتحتي العين عادة لطبيعتهما و زال تهدل الجفن واستنتج أن هناك عيب في النهايات العصبية التي تحرك عضلات العين و لأبدأ من هنا رحلة التشخيص الثانية التي نقلتني إلى عيادة الأعصاب.
في رحلتي الثانية في عيادة الأعصاب بدأت بتحليل للدم و صورة طبقية للدماغ لإزالة الإحتمالات الممكنة للمرض و تحديد السبب المباشر لما أعانيه، وتبين في التحليل أن معدل الأجسام المضادة كبير جدا وهذا مؤشر لمرض مناعي ذاتي يطلق عليه ” Myasthenia Gravis” أو الوهن العضلي الشديد ، يصيب النهايات العصبية المحركة للعضلات الإرادية عامة و للعينين والوجه خاصة .
اكتشفت أن الحالة نادرة و أنني كنت محظوظا لتشخيصها المبكر نسبيا، صرت أجمع المعلومات عنها من فريق الأطباء المتخصصين و المتدربين الذين اجتمعوا حولي يسألون عن أشياء محددة و أنا ألاحق بعيني أصبع السبابة للطبيب فاحصا الطريقة التي تتحرك بها عيني ، و يسألني عن مشاكل في المضغ و البلع أو التنفس و كلها تحركها العضلات فأجد أنني أعاني من بعضها.
قرر الطبيب في عيادة الأعصاب استخدام العلاج المعروف لهذه الحالة بجرعات مناسبة و طلب صورة طبقية للصدر لتثبت وجود الغدة الزعترية “Thymus Gland” التي لها شكل نبتة الزعتر ومن هنا جاء اسمها ، وهي جزء من الجهاز المناعي تسببت في إنتاج هذا المعدل العالي من الأجسام المضادة، تقع تحت عظام القفص الصدري بين الرئتين تساهم في الدفاع عن الجسم في سن الطفولة حتى سن البلوغ ثم تبدأ بالضمور لتصبح في سن متقدمة قطعة دهنية غير نشطة ، وفي حالات نادرة تكون نشطة و متضخمة يجب إزالتها بعملية جراحية “Thymectomy” ، يساهم إزالتها في التحسن من الاصابة بالوهن العضلي الشديد “MG” في فترة تمتد بعض الأوقات من سنة إلى سنتين كما يقلل من جرعة الدواء.
مرت أيام قليلة ثم وجدتني مسجى على منصة الجراحة و حولي فريق الجراحة والتمريض و طبيب التخدير لأنسحب من بينهم إلى اللاوعي، بعد ساعات صحوت و كان صدري يحمل آثار معركة و غدوت بلا غدة زعترية.
مضت الأيام الأولى بعد إجراء العملية الجراحية دون أن أنام إلا سويعات قليلة، ارتفع خلالها ضغط دمي و زادت ضربت قلبي كأنها وجيب قلب فرس في مضمار سباق، آهات المرضى و صراخهم و أصواتهم التي لا تنتهي في غرفة العناية الحثيثة تذكرك بالمطهر و تجعلك تسترق النظر إلى الأصحاء في وجوم و وهن.
تستمر رحلة الشفاء بين مراجعات متلاحقة لطبيب الجراحة و الأعصاب و الأنسجة و مواجهة جهاز المناعة بما يتحتم له الأمر، بت أنظر إلى الجسم الإنساني كحديقة تنمو فيها أشياء و تضمر أخرى يتدخل مشرط الجراح ليقلّم بعض هذه النموات كأنه مزارع يضيف لمساته الفنية على عشوائية الطبيعة و يجعلها تنمو في نسق معين في ظل المركبات الدوائية المختلفة، حينما يقرر الجسم أن ينقلب على صاحبه، مثلما قرر الزعتر الذي نمى في صدري.