د.منصور محمد الهزايمة
لنتوحد من أجل التوحد:أضيئوا اللون الأزرق
فهد طفلٌ في العاشرة من عمره، يبدو وسيما، لا يعاني من إعاقة ظاهرة، أو خلل ٌفي قنوات الحس لديه، يتمتع بصحة جيدة، لكنه سرعان ما يثير اهتمام من حوله في كل مكان يتواجد فيه، فهد ليس منفصماً، ولا منطوياً، ولا منعزلاً، بل يبدو للوهلة الأولى أنه عاديٌ، لكنه يبدي أحيانا تصرفات غير لائقة، أو ردّات فعل غير منسجمة ، وسرعان ما يتكشف أمام الأخرين ما هو غير عادي فهو يتحول في لحظة إلى نحلة لا تعرف السكون ويتبدى أنه فاقدٌ للتواصل البصري واللفظي والاجتماعي، وهنا تلتهمه نظرات الفضول والدهشة ، مما قد يربك الأهل، أو يضعهم في مواقف لا يرغبونها، فالأخرون -غالبا- لا يقدرون هذا الاختلاف في الحياة حق قدره.
في الثاني من نيسان الجاري، أنيرت العديد من المباني والمعالم الأثرية والسياحية الهامّة في مدن العالم أجمع باللون الأزرق على مستوى العالم، كعلامة بارزة على إحساس عالمي عميق مما يعاني منه فهد، وأمثاله من الملايين على مستوى العالم، بما يسمى مرض الذاتوية (اضطراب طيف التوحد)، لكن لمن يسأل عن اللون الأزرق، فبعد بحثٍ وتقصٍ، وجدتُ أن الأمر لا يتعدى الظن والاجتهاد، ومبنيٌّ على أفكارٍ تقول أن الذكور يصابون به أكثر من الإناث بأربعة أضعاف، فاستحوذ على ذهن المحتفين هذا التفسير غير المقنع، أي أنه مرض ذكوري، واللون الأزرق بدوره “مذكر” بامتياز!
أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (2007) يوم الثاني من نيسان من كل عام يوما للتوحد، وتم إبرازه لأول مرة عام (2008)، بهدف زيادة الوعي بالمرض، والتوحد معا من أجل التوحد، ودمج المصابين به في المجتمع، وتعزيز دورهم في التنمية المستدامة، فضلا عن دعم المصابين وأسرهم، وإثارة الاهتمام بمشكلات وتطلعات هذه الأقلية الكبيرة، حيث ما زال الغموض يحيط بالمرض، وأدبياته، وفي كل مفرداته؛ التوصيف، الأسباب، الاعراض، العلاج، والتشخيص.
يقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “في اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد، نرفع أصواتنا عاليةً ضد التمييز، ونحتفي بالتنوع في مجتمعنا العالمي، ونعزّز التزامَنا بالإدماج التام للمصابين بالتوحد، وبكفالة مشاركتهم الكاملة، فمساعدتهم على تحقيق إمكاناتهم كاملةً، جزء حيوي من جهودنا الرامية إلى الوفاء بالوعد الأساسي الذي قطعناه على أنفسنا في خطة التنمية المستدامة لعام (2030)، وهو: عدم ترك أي أحد خلف الركب”.
أمّا الشعار المرفوع لفعاليات هذا العام فهو “التقنية المساعدة، والمشاركة الفعّالة”، وهو شعارٌ ينبض بروحٍ فاعلة ومتقدة، نسبةً لما تحدثه هذه التقنية في حياة هؤلاء، بل أنهم بها ومعها يُبدون ذكاءً يُحسدون عليه.
يُعرّف مرض اضطراب طيف التوحّد: “أنّه مجموعة من الاضطرابات العصبيّة المعقدّة التي تتميّز بأنماط متكرّرة من السلوك، وصعوبات في التواصل الاجتماعيّ، والتفاعل مع الأخرين”
وكان أول ذكرٍ للتوحد تاريخياً عام (1911) بواسطة السويسري يوجين بلولير، وهو مصطلح يوناني الأصل يعني “الذات”، وبالعربية “التوحد” بما يعني العزلة أو الانعزال.
تشير احصائيات منظمة الصحة العالمية أن هناك حوالي 70 مليون مصاب (2017) على مستوى العالم، وأن 1 من 160 طفل يُصاب به، لكن هذه النسبة غير دقيقة، بل متفاوتة، بشكل كبير، تبعا لتراخي أو تشدد محكات التشخيص.
لست في وارد الحديث عن اضطراب طيف التوحد، بصورة شاملة أو تخصصية، بقدر ما أهدف إلى الاسهام-بتواضع- في إثارة الاهتمام بفئة من الناس، تجسد روح التمايز بيننا، بل قد تثري النظرة إلى الحياة، حيث أن في هؤلاء من يثير الاهتمام بدرجة عالية، لما يتمتع به من ذكاءٍ أو موهبةٍ خاصة، ولا يخفى أن أحد أسرار تقدم عالمنا يتمثل في قيمة الاختلاف بيننا، ولو كنا متشابهين لم نكن لننجز ما تحقق حتى اليوم على مستوى الكوكب.