أ. سعيد ذياب سليم
انتشرت في السنوات الأخيرة ثقافة سياسية تعتمد على استخدام حقائق زائفة أو ناقصة، بهدف إثارة الخوف والتلاعب بالعاطفة والإيحاء بتبني انطباع معين، حول موضع ما، لتشكيل الرأي العام، توصف ما بعد الحقيقة أو”Post-truth”، والتي أرى أن نَصفها “بعيدا عن الحقيقة”.
حيث يستخدم المتنافسون في انتخابات معينة، الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي “social media” غير المهنية، في تقديم آرائهم لتأجيج المشاعر والنيل من المنافسين، وما الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الاوروبي، والانتخابات الامريكية ومخرجاتها عنا ببعيد.
إنه فن الخداع والمبالغة، الذي يتقنه بعض الساسة، لتمرير خطة أو قانون أو إعلان حرب، ظاهرة تنتشر في العالم، يلعب الاعلام فيها عبر المواقع الاجتماعية دورا أساسيا، حيث لم يعد الخبر الهادئ المتزن يجذب المشاهد أو المستمع، بل لا بد من كارثة، لإثارة مخاوفه و كسب تحيزه لفكرة ما، حتى أصبح التهويل صفة لبعض الشخصيات العالمية التي تحرك أحداث العالم، مهددين أمن وسلامة كوكب الأرض، وهذه الظاهرة في نمو مستمر، إذ تبيّن الدراسات زيادة نسبة الاعتماد على المواقع الاجتماعية في تلقي الأخبار.
في هذا العصر الذي كثرت فيه الآراء المتناقضة، والادعاءات، والتلاعب بالحقائق، فلا رقيب! أصبح الانطباع الفردي الانفعالي ، ذا تأثير أكبر من الحقيقة الموضوعية، فما هو دور التعليم؟ بمكوناته :الطالب والمعلم.
علينا كمؤسسة تعليمية، أن نقدم لطلابنا فهما متزنا موضوعيا للعالم، دون تحيز، ومنهاجا علميا يستخدمونه للحكم على المعلومات المتداولة، و ” فلترتها” لتمييز الحقائق من الأكاذيب، و إكسابهم القدرة وعادة طرح الأسئلة لاختبار مصداقية المصدر، والقراءة بين السطور، مدركين أن الطلبة في طور النمو لتكوين شخصياتهم و آراءهم الخاصة حول الحياة، قد يختارون آراء تدعم وجهات نظرهم المسبقة، علينا الاستماع لهم و مناقشتهم بهدوء.
عند استخدامنا محركات البحث، ستعرض علينا الصفحات الأكثر مشاهدة، فارضة علينا معلومات ذات طابع خاص، لو بحثت مثلا عن “حشرة الآنسة” ،ستجد صفحات تتحدث عن “حشرة اليعسوب”، و أخرى عن الآنسة بشكل عام في الواقع و الأدب والسينما، و أخرى تتحدث عن الحشرات المختلفة، يظهر محرك البحث أن هناك حوالي28000 نتيجة لبحثك، مرتبة حسب الأكثر مشاهدة، بين مقال علمي، و أدبي، وقصص في مدونات اجتماعية، فماذا تختار؟ و من تصدق؟ وعن أي آنسة تبحث ؟
ماذا لو أجريت البحث عن الدَين العام، أو قانون الضريبة أو خط الفقر؟ ستجد حقائق تقريبية، أو تقارب الحقيقة في سنة دون أخرى، بين مصدر رسمي، و إخباري، و آراء في مواقع اجتماعية، قد يكون الهدف منها تأجيج المشاعر وخداع الرأي العام، واجبنا يتمثل في تثقيف النشء في مجال استنباط المعلومة وتمييزها عن الاشاعة والرأي و الأغراض.
يجب الوقوف عند المعلومة ، و إجراء بحث أعمق ، بإضافة شروط خاصة أكثر تحديدا، والتحقق من مصداقية الموقع الالكتروني الذي نستخدمه، و تبني التفكير الناقد لكل ما يقال حتى يتم دراسته ومعرفة آثاره الجانبية، واعتماد الشك للوصول إلى الحقيقة، متلمسين الحجة و الدليل .
عند قياس التقدم لدى الطالب، تضمين امتحاناتنا أسئلة ، تستخدم مصطلحات، مثل : علّل، ولماذا، وتحقق من، و أعطي دليلا ، بعد أن يقوم المعلم بدوره، مستخدما طريقة التحليل و التركيب للبيانات العددية و الوصفية ، و البحث والتفكير العلمي لحل المشكلات ، على أن يقوم بذلك بطريقة جميلة جذابة، حتى يكون قدوة لطلابه.
تواجهنا تحديات عدة ، منها القراءة، وضيق الوقت، وعرض المعلومة بطريقة تنافس الكلمة المكتوبة، تجعلنا نميل إلى الصورة و الحركة، أكثر من ميلنا إلى الكلمات المكتوبة، لذا فإن الكبسولة المعلوماتية المكثفة، يتلقفها القارئ، دون أن يخوض في مقال طويل، أو برنامج سياسي مفصّل.
ماذا لو وجدت صورة غاية في الجمال، تمثل فراشة فاقعة الألوان تقف على زهرة بيضاء رقيقة، بجوارها طفل يدهن قطعة خبز، بكمية كبيرة من “المايونيز” ذا علامة تجارية معينة، وكتابة برّاقة تقول : أحبوا الطبيعة”، ما تأثير ذلك؟
كلما تذكّر تلك الصورة، سيقوم بفتح الثلاجة، ويصنع “ساندويشته” واضعا طبقة غنية جدا من “المايونيز”، ثم نتساءل ما سبب زيادة السمنة بين أطفالنا!
كما أن خبرا مثل: ” كوكب الأرض مهدد بالاصطدام بجرم سماوي يقع في طريقه، يؤدي إلى انهاء الحياة على وجهها، خلال الشهر الجاري”، يدفع الكثير للوقوف عند هذا العنوان، ويسارعون في نشره على صفحاتهم الاجتماعية، لجمع أكبر عدد من ” اللايكات” دون التحقق من الحادثة، لنكتشف فيما بعد أنه لا يخرج عن دعاية لأحد أفلام الخيال العلمي الذي سيعرض خلال الشهر الجاري، فالدعاية تستخدم المبالغة للفت الأنظار، ولا تتحرج من الكذب، ما نعيشه إذن ثقافة سائدة في مختلف المجالات.
أصبح الكذب والمراوغة فن اجتماعي جذاب، وأصبحت ظاهرة “ترامب” من القوة ما يجعل النشء يقلدونها، وأصبح المعلم التقليدي، غير مؤثر في الواقع، فعليه أن يخرج من إطاره، ليصبح “بهلوانا” يقفز على حبال المعرفة في عصر ما بعد الحقيقة، رافعا شعار” الحقيقة أولا”.