مجيد عصفور
بوفاة شمس بدران وزير حربية الهزيمة عام 1967 تنفتح نافذة الذكريات على زمن الخديعة الكبرى بكل تفاصيله الموجعة، وبكل الدجل الذي كان عنوان حقبة وعنوان رجال قادوا اكبر دولة عربية ومعها بقية الدول العربية نحو الهاوية.
قبل عام 1967 كان العرب يعيشون وهماً وضلالاً بأن مصر بقيادة جمال عبدالناصر سوف ترمي إسرائيل في البحر، لا يمكن القاء اللوم عليهم أو وصفهم بالسذج فقد حقق عبدالناصر نجاحات كبيرة، اهمها رفع الروح المعنوية للشعب المصري وللشعوب العربية، عندما تحدى قوى الاستعمار القديم منه والحديث وتمرد على الهيمنة الامبريالية فبنى السد العالي وأمم قناة السويس وانشأ مصانع عملاقة، هذه الإنجازات وغيرها جعلت مصر ملهمة للشعوب العربية التواقة للحرية ولتحرير فلسطين.
الخطأ وقع عندما امتدت أعين وأيدي جمال عبد الناصر إلى خارج حدود مصر قبل أن ينجز متطلبات بناء الدولة القوية على أُسس حقيقية تضمن الصمود والنصر في أية مواجهة محتملة مع العدو، لكن عبدالناصر وبطلب من الجماهير العربية تعجل في الخروج الى العالم العربي، واجل بناء مؤسساته وبالأخص الجيش، مهرولاً نحو الزعامة التي ظن انها وحدها تكفي لهزيمة العدو.
كان يجب ان يؤدي الفشل الذي منيت به الوحدة مع سوريا والخسائر الجسيمة التي تكبدها جيشه وخزينته في اليمن، الى تعلم الدروس والعِبر والتوقف عند الاسباب كلها واعادة النظر في اداء وسلوك قادة اعتمد عليهم وفي مقدمتهم صديقه المشير عبدالحكيم عامر الذي وضعه رئيساً لضباط اكفأ منه بكثير في العلوم العسكرية، بعضهم تخرج من معاهد عالمية وتلقى خلال مسيرته دورات متقدمة بينما هو توقف عن العلم والعمل الميداني منذ ان كان برتبة رائد حيث قفز لواء ثم مشيراً ثم شيخاً استحوذ على ولاء الجيش مجرداً عبدالناصر من أية علاقة أو صلة به.
هذه الوضعية أدت إلى معادلة تقاسم النفوذ فالشعب والإعلام والشأن السياسي داخلياً وخارجياً من حصة الريس، والجيش حصة المشير، وبتفاهم ضمني صار الرئيس والمشير يعرفان قوة بعضهما ولا يقترب أحدهما من ساحة الآخر، لكن معادلة الردع هذه أدت في النهاية إلى سقوط الدولة بالفساد الذي حفر عميقاً في كل المؤسسات ولا سيما الجيش الذي تحول إلى هيكل عظمي هش.
السقوط بدأ في الواقع عندما انغمس الضباط «الاحرار» الذين خلعوا الملك والفاسدين الذين كانوا يحكمون مصر، في ملذات الحياة المدنية فاستولوا على بيوت الاقطاعيين وتاجروا بالمخدرات والممنوعات، ولم ينج منهم سوى رجل واحد ظل على طهره ونقائه هو جمال عبد الناصر الذي غطى بنبله على سوءاتهم وحافظ باستقامته كرجل صالح على مكانة الثورة ليستمر الشعب متمسكاً بها وحامياً لها.
إن صفات الرجل الصالح تصلح للنسب والمصاهرة، ولا تصلح لقيادة دولة وتجهيزها لخوض معركة مصير مع عدو ينتهج العلم ويمتلك المعرفة والمعلومات الدقيقة عن عدوه، بالاضافة الى امتلاك الدعم السياسي والعسكري الخارجي من قبل أقوى دولة في العالم.
كان الفرق بين قوة العرب واستعدادهم للمواجهة حينما تقع واستعداد اسرائيل كبير جداً يشير بوضوح الى تفوق اسرائيل وكان من بين العرب من يعرف هذا الفرق ويحذر منه، إلا ان مصر وقيادتها المضطربة كانت تكابر ولا تقبل الاعتراف بالحقيقة، فخاضت الحرب بقوة الحناجر التي كانت تعد السمك مع احمد سعيد بوجبات شهية من أجساد اليهود اذين ستلقي بهم في البحر بمجرد أن تبدأ الحرب.
شمس بدران نموذج للمسخرة التي كانت تمسك بزمام الحكم في اكبر دولة عربية، ويكفي ان نعرف ان هذا الرجل توقف علمه العسكري منذ ان تخرج من الكلية العسكرية وعمره 19 عاماً ثم اصبح عضواً في مجلس قيادة الثورة عندما بلغ الثالثة والعشرين، وبعد ذلك وزيراً للحربية في الثالثة والثلاثين ومثله كثر امثال صلاح نصر والمشير عامر وعبدالقادر حاتم مقلد غوبلز وزير الدعاية في زمن هتلر والجاسوس اشرف مروان صهر الرئيس وحسن التهامي الذي كان يدعي اتصاله بالسماء من صومعته التي يخلو بها مع ربه وقصة احتياله على السلطات المغربية معروفة عندما اقنعهم انه وعد في خلوته بالزواج من سيدة اعمال مغربية، والقصص كثيرة عن خزعبلات وآثام رجال الحكم الذين تسببوا باكبر هزيمة لمصر وللعرب ما زلنا نعاني من آثارها حتى الآن.
إن استدعاء تفاصيل مرحلة مصيرية من حياة الامة العربية يستدعي محاكمة حقيقية لرموزها كل حسب حجمه ودوره ليس لمعرفة ما حدث فقط بل للتعلم من دروس ما حدث، ولانصاف من لم يسمع صوتهم في تلك الحقبة بسبب ضجيج الغوغاء وتصديقهم للخطابات التي كانت تدغدغ عواطفهم.
رحم الله الحسين ووصفي وحابس المجالي وعاطف المجالي فلو استمع عبد الناصر للحسين ووصفي لما ضاعت بقية فلسطين ومعها سيناء والجولان ولو استمع عبدالمنعم رياض لعاطف المجالي لما ضاعت القدس وفي ذمة التاريخ حقائق ومواقف لا بُد من ظهورها يوماً ما.