أ. سعيد ذياب سليم
“أبيل” فتى يعيش في مدينة بابل يتردد على بيت الطوب ، المدرسة التي يتعلم فيها الكتابة المسمارية ، جهد معلمه في تعليمه أصول الكتابة، كيف يختار الصلصال من على ضفة الفرات ليصنع منه ألواح الطوب بأبعاد مناسبة ثم يعدّه جيدا لنقش الأحرف و المصطلحات المسمارية، وكيف يصنع أداة النقش من القصب و يهيء رأسها بالطريقة اللازمة لرسم النقش.
جاعلا السطح الاملس لها ملامسا سطح الطوبة الليّن حتى لا تلتصق ، في عملية محسوبة تسمح للرمز أن يكون غائرا بدرجة تنسجم و بقية الرموز و كأنها قطعة فنية، في خطوط أفقية متوازية.
في البداية كان يرى الرموز كأنها طلاسم سحرية و بابل مدينة السحر و الشياطين ، ثم شيئا فشيئا تعرّف على الأحرف الصوتية ، وكيف يُقطّع الكلمة إلى عناصر بسيطة يستطيع أن ينقشها على لوح الطين.
يستمع “أبيل” بشغف إلى المعلم في حديثه الشيق كيف بدأت الكتابة و انتقلت في مراحل متتالية من كتابة صورية إلى الأحرف، وكيف تأثرت بالأعمال اليدوية! فقد كان العامل يمسك المطرقة بيده اليمنى والإزميل بيده اليسرى ثم ينقش على الحجارة من اليمين إلى اليسار كما تسمح الأدوات، و المألوف بين الناس استخدامهم لليد اليمنى وهكذا بدأت عن اليمين.
وكيف تحولت لتبدأ من اليسار، فعندما تكتب الرمز وتنتقل لكتابة التالي له في المساحة المجاورة لا يتأثر بضغط القلم على الطين فيشوهه و هذا يتفق مع حركة العين التي يريحها الاتجاه إلى اليمين.
كان في طريقه إلى المدرسة يحب أن يرتاد الساحة العامة ناظرا إلى السلع المختلفة التي يعرضها التجار، ألسن و لهجات عجيبة و بضائع أعجب قادمة من الصحراء و من مصر و كنعان وممالك الساحل الواقعة على البحر الغربي فخّاريات و زجاج ملون و زيت زيتون وعصير عنب، يقف بين الجموع يسمع أخبار القوافل و يرى في أيدي التجار كتابات تشبه المسمارية و أخرى هيروغليفية كم يتمنى لو يعرف معناها.
استغرق ” أبيل ” في النظر إلى برج بابل الشهير شامخا كأنها يد تشير إلى السماء، بابل أجمل المدن و حاضرة الإله “مردوخ” لم يكن عبثا تسميتها “باب إيلي” طريق الآلهة ، ابنه ” نابو” إله الكتابة و شفيع الكتبة ، يلقي هالة من القداسة تحيط بالكتابة مصدرها و طرقها الغامضة وارتباطها بالسماء. تساءل بينه و بين نفسه :هل قدسية الكتابة و تأثرها بالطقوس الدينية جعل الكتبة يبدؤون كتاباتهم من اليمين لارتباطه باليمن و الخير بعكس الشر و الأذى المرتبط باليسار؟
سمع من بعيد زميله مساعد المعلم يستعجله : “تأخرت يا أبيل ! ” طلب منه إحضار مزيدا من الصلصال، و إن تأخر مرة أخرى ستلسع العصاة جانبيه، عاد مسرعا يحمل قصعته المليئة بالطين ، ليُعِد الألواح ، مازال ينتظر أن يكلفه المعلم بمشروعه الخاص ، هل سينسخ ملحمة جلجامش ؟ أم يكتب جداول فلكية أو هندسية ؟ ربما سيكتب قصة حب بالمسمارية!