د.منصور محمد الهزايمة
كان أبو سالم الثمانيني يلتقي يوميا مع صديقه أبي محمود، الذي يناهزه في العمر، ويتبادلان حديث المودة والذكريات، ويخوضان في شتى الموضوعات، وفي أحد الأيام دار بينهما الحوار التالي: أبو سالم :هل ترى ما يدور حولنا من فتن، الحمد لله على نعمة الإسلام، فنحن –المسلمين- بحق خير الناس. أبو محمود(موافقا) باقتضاب: أنت صادق، الحمد لله. أبو سالم(مستدركا): لكن نحن العرب أتباع الإسلام الصحيح، وليس لدينا بدع كغيرنا. أبو محمود(بحدة): بل نحن وحدنا في الخليج ما زلنا الأكثر التزاما بالكتاب والسنة. أبو سالم(بتحد): لا خليج ولا غيره إسلامنا في السعودية هو الصحيح. أبو محمود: ما عليك زود، حتى نحن أبناء هذه المنطقة ليس مثلنا في عبادتنا. وافقه أبو سالم وهو يشرب ما تبقى من قهوته وأمّن على كلامه. فجأة توقف أبو سالم عن الكلام، وأخذ يطيل النظر في صديقه، وهو يركّز نظارته على عينيه، ثم قال: تعرف يا أبا محمود ان صلاتك مش “مضبوطة دايماً”.
هنا صاح أبو محمود (بانفعال): صلاتي أحسن من صلاتك، واشتبكا في جدال عالي النبرة، لم ينته الا بفصل الأبناء بينهم.
هذا الحوار بمضمونه قد يقع في أي مكان بين أبناء العرب، وهو يصور ميل العربي غالبا للانسحاب من الفضاء الرحب إلى الأفق الضيق، حتى يتوحّد مع نفسه، مع ما قد يصاحب ذلك من كراهية وتعصبٍ مذموم.
يسعى العربي معظم الوقت إلى حصار نفسه، فمن دائرة القومية الأرحب إلى الدائرة الوطنية، ومنها إلى المناطقية فالقرية ثم العشائرية، ليصل إلى دائرة أبناء العمومة والاقارب، وأخيرا قد ينكفئ على نفسه، لا يختلف في ذلك الزعيم مع غيره.
غالبا ما يريد العربي أن تقتصر حياته على الاهل والربع، وما عداهم فهم غرباء، لكن هل يميل العربي بطبعه إلى العزلة ورفض الأخر؟ هل ينبع ذلك من نرجسية العربي، أو الإحساس بفيض العنجهية، حيث يقول شاعرهم: “واني على ما فيّ من عنجهية ولوثة عربية لأديب” أو ربما هو وهم عدم الحاجة للأخر، مع أن الواقع ينبئ بعكس ذلك تماما؟! أمّا جواب كل ذلك فهو غير صحيح، بل على العكس، يبدو العربي يتقبل الأخر بكل يسر، نظرا لما مرّعلى بلاده من أحداث تاريخية جسام، ولِما يعتبر نفسه صاحب رسالة دينية عالمية، وبحكم الاختلاط الكبير مع الأخر، والملايين التي تعمل في بلاده.
لكنّ الشباب العربي اليوم في كل أقطاره، يشعر وكأنه يعيش حالة الغيبوبة أو الصدمة، فهو يُغرَق في كثير من الجدل أو المهاترات، التي لا يجد أساسا لها، ويرى أن اماله تتبدد على الصعيد القومي أو الوطني وحتى الشخصين وهذا يقود إلى حالة من العداء للأخر، سواءً في مجتمعه أو في المجتمع الإنساني، لذلك كله وغيره، فإنه يحاول دائما الانزواء حد التقوقع على نفسه، في وحدة يراها الأجدر والأفضل.
تُفسّر الشخصية العربية هذه التي تهفو إلى الانسحاب، وتبني شعار “وانا مالي” والرغبة بالقفز بسلام من السفينة، دون مراعاة من هم حوله، بما قد يقع للإنسان في أي أمة أو مكان من هزائم أو أزمات كبرى لا يعرف لها سببا أو يجد لها مبررا، ولا يرى أن هناك سعي جاد من السلطة والمجتمع لتحديد المسئولية فيها أو تجاوزها.
يدرك الشباب العربي اليوم تماما أن الدولة القطرية تنسحب من أدوارها ومسئولياتها، كما أن الحكومات لا تحل أزمات، بل تديرها بارتجال، يفتقر إلى فن الإدارة معظم الأحيان، فهي قد تصنع الأزمة، وتنفخ فيها، وتعمقها، حتى تهتز أركان المواطن بها، فيعدم الحيلة حيالها، عندها يأتي اهل السلطة بالمعجزة، أي الحل، متوهمين قدرتهم على الخداع، بأنهم أهل حل وقيادة. كل ذلك يتسبب بانعدام الثقة بين الناس والسلطة، وكذلك مؤسسات الدولة والمجتمع من اقتصادية واجتماعية ودينية، فتصبح غير موضع تقدير، بل تحظى بالازدراء، امّا الرموز الزائفة فتسقط سقوطا مدويا، ولذلك نجد أن الشباب يكاد يفقد الأمل في مستقبله، ويطفح بالغضب على ماضٍ لا دخل له فيه، ويلجأ عندها للانسحاب كحل مستطاع.
لا يلام الشباب العربي على هذه الروح، عندما تصبح السياسة والإدارة في بلاده اشبه ما تكون بملهاة على مسرح عبثي، لا تحكمها ضوابط ولا تُدرك بها الحواجز بين الممثلين على الخشبة وبين المتفرجين أو العاملين، لا أحد يثق بالأخر، والكل يفهم أن اللعبة “المسرحية” ليس لها غاية أو قيمة، فالممثلون لا يقصدون، والمتفرجون لا يصدقون، ولا أحد يتوقع من الأخر صدقا أو ثقة، بل الكل يضحك على الكل.
الدوحة – قطر