د.حسام العتوم
شاهدته في حياتي مبكراً مرةً واحدةً في بلدتي سوف – غرب جرش، عندما كان مدعوا في دارة علي باشا الكايدالعتوم عند ابنه الوزير المرحوم حسن الكايد بمعية الأمير الحسن أطال عمره، وكان رمزا وبطلا في ذاكرتي وأيقونة الوطن قبل وبعد استشهاده، وصورته عندي لم تتغير، ورغم اقتران اسمه رحمه الله بعشيرته (التل) الكريمة، إلا أنه مثّل كل عشائر وقبائل وقوميات الوطن – الأردن الغالي، بكامل عمقه العروبي والديني (الإسلامي والمسيحي). إنه وصفي الذي ولد مع ميلاد دولة الإمارة الأردنية 1921، واستشهد عقب إسدال الستارة عن أحداث أيلول المؤسفة بتاريخ 28 تشرين الثاني 1971، وهي التي تجاوزناها وطنيا بالعودة لنداء الوحدة الوطنية المقدسة التي رسخت مداميكها العشائر الأردنية والفلسطينية بعد نكبة عام 1948 ووشحتها رسميا عام 1950. فماذا قدّم وصفي للوطن، ولماذا اسشهد؟ وهل كان أول الشهداء وآخرهم؟ وما الذي ميز اسمه عن باقي شهداء الوطن رحمهم الله جميعا والجنة مثواهم؟
لقد تصدى الأردن بقيادة جيشه العربي المصطفوي – القوات المسلحة الأردنية الباسلة لحروب ثلاثة كبيرة ( نكبة 1948 ونكسة 1967 ونصر الكرامة 1968)، ولم يستشهد وصفي فيهن، بمعنى أن اسرائيل الإحتلالية لم تستهدفه، لكنه استشهد لحمله سيف ودرع الوطن ولرايته الخفاقة، دفاعا عن استقراره، وميّز بين خندق (الكرامة) الواحد الحميد، وبين قلب الطاولة السياسية والعسكرية على شرعية الوطن تحت شعار للمقاومة آنذاك: (تحرير فلسطين عبر عمان) السلبي وغير الواقعي، وأغضبه ذلك، ولم يرضه تراشق الرصاص فوق سماء عمان. وكما أقول دائما في كتاباتي، لو قبل القائد الميداني لمعركة الكرامة وبطلها الفريق الركن مشهور حديثة الجازي رحمه الله بدور وصفي لأستشهد مكانه، لكن ذكريات الخندق الواحد عزّت عليه. واستهدفت (أيلول) كذلك زيد الرفاعي – أطال الله في عمره – في لندن. وتقدم الحقبة الزمنية تلك عظيم الأردن، مليكنا الراحل الحسين طيب الله ثراه ، وهو الناصح لوصفي إلى جانب مدير جهازه الأمني وقتها نذير رشيد بعدم السفر للقاهرة بتاريخ 28 تشرين الثاني 1971، وهو يوم استشهاده، رغم انفراده بالحدس المسبق دائما حتى قبل معركة حزيران عام 1967، ورفضه دخول الأردن فيها. وكان وقتها المشير الركن حابس المجالي قائدا للجيش، وكان زيد بن شاكر الذي أصبح قائدا للجيش والأمير لاحقا.
لقد عُرف وصفي بنظافة اليد والاستقامة والشجاعة والوطنية والقومية، وشكلت شخصيته هيئة متكاملة لمكافحة الفساد، وقبل أن يواجه الرصاص بصدره وبمفرده دفاعاً عن وطنه الأردن الذي أحب، وعن نظامه السياسي الأردني الذي عشق، وعن عمقه القومي العظيم، وعن قناعته بالقضية الفلسطينية العادلة، وحبه من جديد لفلسطين وأهلها، أهلنا غربِ النهر وبين ظهرانينا، وارتفع بشخصيته عن الشبهات، وحلق عاليا كما النجوم في مدار القمر والشمس، فلم يشبهه أحد حتى الساعة في ميدان العمل العام الحكومي الوطني، ولازال كرسي رئاسة الوزراء فارغا – كما تقول العامة لدينا وسط شعبنا الأردني الطيب- لكي يملؤه من جديد من تصل قامته إلى مسافة قريبة من مشارف أكتاف وصفي.
كتب وصفي التل في مؤلفه “كتابات في القضايا العربية – ص 37: (فليست فلسطين إذن، الهدف النهائي للصهيونية، وإنما هي رأس جسر لتوسعات أخرى، تقرر زمانها ومكانها عناصر القوة والضعف في مفهومها الشامل سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلميا وتنظيميا، معبأة في طاقة كلية تتصارع مع طاقة كلية مقابلة في كفتي ميزان، ترجح أحدهما على الأخرى). وهكذا الى الأمام وقعت حرب تشرين عام 1973، بهدف تحرير الهضبة العربية السورية – الجولان، وتحرير سيناء، ومزارع وتلال شبعا اللبنانية، واشتركت قواتنا المسلحة الأردنية الباسلة – الجيش العربي عبر اللواء المدرع أربعون ) لواء الله ) بقيادة اللواء الركن خالد هجهوج المجالي في المعركة، وقدم الأردن ثلة من الشهداء قوامهم إحدى عشر شهيداً عسكرياً. وفتحت طريق حروبنا مع إسرائيل الأبواب على مصراعيها لتوقيع معاهدات سلام الند للند بين إسرائيل ومصر عام 1979 والأردن عام 1994، وإلى الأمام حديثاً مع الإمارات ومع البحرين ومع المغرب، والسلام آت ومتحرك في عمق الزمن القادم، وهو الذي نتمنى له أن يقترن بعودة إسرائيل لحدود الرابع من حزيران عام 1967، ولا نقبل نحن العرب أقل من ذلك.
والسلام مع إسرائيل لم ولا يعني لنا التطبيع الشعبي، أو الإعلامي، أو السياحي، أو الاقتصادي، أو السياسي بكل تأكيد.
وأيلول الأسود المؤسف والذي نبقيه خارج الذاكرة ووسط عالم النسيان بقوة وحدتنا الوطنية المقدسة، تدفعنا لتصفح أوراقه سنويا ذكرى استشهاد وصفي العطرة فقط، فما بالكم عندما يجري الحديث عن مرور خمسون عاما على استشهاده رحمه الله والجنة مثواه؟
ويستحق وصفي أن يهتم المسرح الأردني بشخصيته وبنصرنا الأكيد في (الكرامة). ولم يعرف المجرمون قتلة وصفي في المقابل، بأن قرار تصفيته جسديا رفع من اسمه وجعله من الشهداء الأبرار في عليين، وأدخله التاريخ المعاصر من أوسع أبوابه، ودفع به إلى الخلود. وهو أي وصفي الذي تعمّد بعد استشهاده بثرى الأضرحة الملكية، ومن ثم ووري التراب الذي تعطر به جثمانه من جديد في دارته على طريق السلط، التي أمر سيدنا صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ” حفظه الله ورعاه ” بترميمها بما يليق بسمعة وصفي التاريخية وإلى الأبد، وقتلة وصفي وضعوا أمام مصلب أعينهم الثأر لأبو علي اياد (وليد أحمد نمر نصر الحسن شريم) أحد مؤسسي حركة ” فتح ” وعضو اللجنة المركزية فيها، والذي قضى نحبه صدفة في أحراش جرش وعجلون حينها مع رفاقه في العمل الفدائي، وتناسوا حرص قيادتنا الهاشمية الحكيمة وجيشنا العربي – القوات المسلحة الأردنية الباسلة على حماية المقاومة والمخيمات ونقلها من منطقة (الكرامة) إلى منطقة البقعة والشمال قبل نصر عام 1968. وبأن الأردن وبحضور وصفي تصدى للمؤامرات الصهيونية تباعا. كتاب – وصفي التل في مجابهة الغزو الصهيوني- من إعداد وتحرير ناهض حتر. ص 10 يقول: (كان وصفي يرى أن الصهيونية – تاريخيا وواقعيا – حركة قام بها كبار رجال المال والصناعة اليهود، للتوطين في فلسطين ، ليجعلو منها قاعدة للاستغلال الاقتصدي، وبنكا للعالم كله، يباشرون بواسطته نشاطهم الاستغلالي في جميع أنحاء الأرض عامة، وفي المنطقة التي تضم ما يسمونها – بأرض الميعاد- بصفة خاصة)، واستمر الأردن يدافع ببسالة في عهدي مليكنا الحسين الراحل وجلالة الملك عبد الله الثاني من أجل بناء دولة فلسطين كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، مبقيا على الوصاية الهاشمية التاريخية المؤسسة عام 1924 وسط عهد شريف العرب وملكهم ومفجر ثورتهم العربية الكبرى المجيدة الحسين بن علي – طيب الله ثراه – راعية للمقدسات في القدس.
عبد الله الثاني ابن الحسين في كتابه “فرصتنا الأخيرة – السعي نحو السلام في زمن الخطر . ص 57” . كتب جلالته يقول (.. ولم يمض وقت طويل حتى وجدنا أننا لسنا في مواجهة عدو داخلي فقط، ذلك أن سوريا هاجمت في شتاء 1970 شمال الأردن بواسطة ثلاثة ألوية مدرعة ولواء كومندوس ولواء من المقاتلين ..، وهو الأمر الذي يعني- والكلام هنا لي- بأن دولا في الأقليم دخلت على خط الصراع الداخلي في الأردن بين الجيش والمقاومة مثل سوريا ومصر، وليبيا، لكن الأردن اتجه صوب الحسم وكان له ذلك وهو ما أراد. وكتاب مهنتي كملك – أحاديث ملكية، نشرها بالفرنسية صاحب جم، وترجمها الدكتور غازي غزيل. ص 299 أورد قولاً للحسين مليكنا الراحل مفاده بأنه طلب من رئيس وزرائه أن لا يذهب إلى القاهرة في تشرين الثاني1971 ، فلم يلتفت إلى ذلك. وهو الأمر الذي يشير إلى إصرار وصفي على التمسك بالولاية العامة وتحمل مسؤولية نتيجة اجتماع القاهرة لوحده، وهي التي انتهت باغتياله المحزن والمؤسف، وأعطت فرصة لمن استهدفه بأن يحققو هدفهم الأسود بسهولة في زمن غياب الحراسة الشخصية القوية المطلوبة والواجب أن تحمي وصفي.
وكتاب زيد بن شاكر من السلاح إلى الانفتاح بقلم نوزاد الساطي . ص. 271 يذكر لنا (..بدأت تظهر شعارات جديدة وأفكارا تعكس انحراف البوصلة لدى الفصائل مثل (كل السلطة للمقاومة ، وتحرير القدس يبدأ من تحرير العواصم العربية .. ) كل هذا وغيره كان قد وقع في عام 1969، أي قبل عام من أيلول المشؤوم. وفي الختام أدعو لشهيدنا الكبير وصفي التل بأن يكون مثواه الجنة، ولوحدتنا الوطنية الأردنية – الفلسطينية بدوام النجاح في إطار الهويتين الوطنيتين والقوميتين في الدولتين الشقيقتين الأردن وفلسطين ووسط شعبيهما العظيمين الأردني والفلسطيني.