د. علي منعم القضاة
كنا وما زلنا مع الإجراءات الوقائية الكبيرة التي تتخذها الحكومة، وتبذل ما بوسعها، للحد من انتشار فيروس كورنا بين الناس، وقد كانت كل المؤشرات تقول: إن بلدنا بفضل الله أولاً ثم بتواصل جهود المسؤولين، واهتمامهم على كافة المستويات الرسمية والشعبية، حد من انتشار الفيروس (كورونا) بدرجة كبيرة.
دأبت الحكومة من خلال أجهزتها الرسمية على ديمومة التواصل عبر كل الوسائل المتاحة، لتبصير الناس بالمخاطر، وحثهم على الابتعاد عن الأماكن الموبوءة، أو التي تكون مظنة وجود الفيروس في الأماكن العامة، وحتى المستشفيات إلا للضرورات القصوى والملحة، وأغلقت حتى العيادات الخاصة، بالرغم من وعي الأطباء والطواقم الطبية بخطورة انتشار الفيروس، ومعرفتهم بكل طرق الوقاية منه، والتزامهم بذلك في عياداتهم حتى قبل وجود هذا الوباء في الأجواء، ولكن المكان الوحيد الذي التزم به الناس، كل الناس في بلادنا على المستويين الرسمي والشعبي وبنسبة (100%) هو عدم الذهاب للمساجد، أما بقية الأماكن فمزدحمة.
أعلنت الحكومة عن نيتها لفتح الأماكن العامة والدوائر الحكومية، (القطاع العام) مباشرة بعد العيد، وربما يكون موظفو القطاع العام واعين لخطورة انتقال الفيروس، أو ربما يستخدمون الوقاية المطلوبة منهم، اختياراً أم قسراً.
لكن في عودة وسائل النقل العام إلى حركتها الطبيعة ولو بنسبة أقل، وكذلك في فتح الأسواق – بل إن الأسواق مفتوحة الآن-، التي نرى فيها تزاحماً شديداً، مع أقل قدر ممكن للالتزام بسبل الوقاية؛ تتجسد بخطورة انتقال العدوى؛ كما يبدو واضحاً في كثير من حالات المتسوقين التي نشاهدها يومياً، وهذا الأمر ليس فقط في عدم التزامهم بوسائل الوقاية المطلوبة، وإنما بمجرد الاهتمام بها من ناحية الشكل، ومن جهة ثانية فإن الحق يقال أنه يصعب ضبطها، أو السيطرة عليها بشكل كامل، وهو أمر واقع لا يمكن تجاهله، أو التغاضي عنه.
في ضوء ذلك كله، تعتلج في النفس آهات وتختلج؛ بسبب الاستمرار في إغلاق المساجد، وأزعم أن معظم المصلين سيكونون أكثر الناس التزاماً بالتعليمات، فهم ملتزمون بتعليمات ربهم، ومنضبطون خلف الإمام، ويتبعونه بكل حركاته، ولن يكونوا عبثيين؛ فهم يعرفون أنه لا ضرر ولا ضرار، ويعرف معظمهم كل الأحاديث والآيات التي تدعوهم إلى الالتزام بسبل الوقاية.
وكي نكون منصفين، فإنها دعوة لفتح المساجد بعد العيد، وبعد رمضان، ولنبدأ بصلاة الفجر أولاً، ولتكن هناك إجراءات وقائية، كل من المصلين يحضر معه سجادته الخاصة ليصلي عليها، ويحافظ على مسافة التباعد بينه وبين أخيه، ويلتزم بكل ما تتطلبه أمور الوقاية، من استخدام المعقمات والكمامات، التي كان المصلون يستخدمونها في بعض المساجد قبل الحظر، لا بل إن خادم المسجد في حيينا كان يدور بالمعقم على المصلين قبل الصلاة، وبعد الانتهاء من الصلاة يقف أيضاً على مدخل المسجد ليعقم الناسُ أيديهم وقت الخروج.
كانت المنافسة بين المسجد والسوق قائمة، وما زال التدافع بين الناس موجوداً في تصرفاتهم في كل الأماكن العامة، كما نجدها في توجه أهل السياسة والثقافة والإدارة، وهو شيء ليس بمستغرب؛ فقد ورد في كتاب الله ما يخبرنا عن ذلك: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}، كما يخبرنا الله سبحانه وتعالى.
إن هناك من يشتاقون حقاً وصدقاً لبيوت الله، قلوبهم معلقة بالمساجد، رغم أن أبواب المساجد مغلقة، كما في قوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} صدق الله العظيم. وأخبرنا رسولنا الكريم عليه السلام؛ بأن من بين السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، رجل قلبه معلق بالمساجد، ولا تزال هذه المقابلة وهذا التنازع قائما بين السوق والمسجد، رغم ما ورد في الحديث : (أَحَبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغضُ البلاد إلى الله أسواقها).
عادت دول كثيرة في العالم لتنظيم الصلاة في المساجد، وحافظ المصلون على التباعد بينهم، وهم الحريصون على إدامة الصلة مع الله، ولذلك سنراهم أشد حرصاً من كل المسؤولين على تطبيق تعليمات الوقاية، واستخدام كل أدواتها الكفيلة بعدم انتقال الفيروس. وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بنسبة التزام مرتادي المساجد مع مرتادي الأسواق بالإجراءات الصحية الوقائية، فإن المَشَاهِدَ الواردة من كل دول العالم تقول لنا: إن البون شاسع، والفرق واضح بين المشهدين، وبكل تأكيد الالتزام الأكبر هو للمصلين في المساجد.
نورد في هذا السياق مثالين اثنين مدعمين بالصور لأقرب بلدين قريبين نفسياً وثقافياً وشعبياً ورسمياً للأردن، هما سوريا وفلسطين، فقد تناقلت الأخبار من سوريا وبالصور، منظر المصلين في المسجد الأموي – أعاد الله عزه-، في صلاة الجمعة الثالثة من رمضان. وكذلك الحال تناقلت الأخبار المصورة من فلسطين المحتلة، أداء صلاة التراويح من يافا، لمسلمين متباعدين أثناء أداء الصلاة، ملتزمين بسبل الوقاية الصحية، عند عودتهم إلى بيوت الله بعد طول غياب.
لا ينفذ الناس في الأسواق سبل الوقاية بنسبة تتعدى 20% في أحسن الأحوال، وأنا هنا لا أطالب بإغلاقها بقدر ما أطالب بتشديد وترشيد الرقابة على ارتيادها، وعلى استخدام إجراءات الوقاية فيها، حقيقة يعلمها كل من سمح له ظرفه، أو اضطره لدخول سوقٍ، أو مخبزٍ؛ فقد رأينا أن من يلبس الكمامات والقفازات؛ وهم قليل! رغم حرص قلة منهم على الوقاية، ورغم أن الحكومة تقوم مشكورة بجولات لرفع درجة الوعي والالتزام، فتعاقب حيناً، وتنبه أحياناً أكثر.
المكان الوحيد الذي يطبق عليه الإغلاق الكامل هي المساجد فقط دون مبرر مقنع، لماذا لا تُفتح المساجد بضوابط وقائية، ويطلب من المصلين التباعد أكثر حتى من المتبع في أماكن العمل، والمواصلات، ومراكز التسوق مثلا؟! من طبع المصلين في المسجد الانضباط والالتزام، ولن تكون مشكلة في إجراءات الصلاة، أو الحرص على التباعد، يا وزارة الأوقاف، ويا لجنة الأوبئة؛ أسأل الله أن يلهمكم حلاً عاجلاً حتى نرجع إلى بيوت الله.
هذه محاولة مني ونصيحة لمن يهمه الأمر؛ لعلنا نصل بعون الله إلى حالة من العودة الرشيدة في كل مناحي الحياة، ونجمع التعافي الصحي، والانتعاش الاقتصادي، والغذاء الروحي معاً.
أستاذ مشارك في الصحافة والنشر الإلكتروني