لا يمكننا مقاربة الواقع التنموي الراهن بأزماته ومشكلاته، أو الواقع المأمول في المستقبل وإمكاناته، دون الاعتماد على خط بياني حواري، تتمثَّل فيه سيرورة بناء الوطن، وتمكين المواطن وتفويضه ليكون شريكاً أساسياً في صنع ذلك المستقبل القائم على الكرامة الإنسانية، في نطاق احترام الذات الفردية والجماعية، والاحترام المتبادل بين هذه الذات والآخرين، والحرص على الواجبات وضمان الحقوق، ما يعني احترام القانون، وتفعيل المواطنة، ومأسسة المشاركة والتكامل القطاعي تنموياً في إطار دولة القانون.
فالمسألة ليست مسألة تقرير مبادئ ومصفوفة شروط ومتطلبات؛ بقدر ما هي تأكيد مسؤولية أخلاقية في إدارة الاختلاف والتباين في الاتجاهات ووجهات النظر وإقصاء الخلاف، لا إقصاء المُختلِف، الأمر الذي يساعد على أن تصفو النوايا والقلوب، وتتحرَّر من أوهام تُضيِّق المساحات التي يمكن أن تسع الجميع بحكمة إدارة الموارد البشرية والمادية، وكذلك بوضع «مساحات للعذر والتآخي والاحتمال».
إنَّ الأهمّ هُم الملايين من الناس الذين ينتظرون وينشدون دوماً قرارات تمنحهم الشعور بالاستقرار والطمأنينة ليستمروا بالعطاء والإنجاز، ولتكتمل حلقات خدمة الصالح العام حيث تلتقي جميع الأفكار والاتجاهات في مساره بهدف واحد وموحَّد هو خدمته، بما في ذلك توجيه المال العام وأموال الخزينة نحو المصلحة العامة، وبالشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني، تتحقق الإنجازات المثمرة للكرامة الإنسانية في الواقع.
وحين نذكر إدارة الموارد الوطنية فإنما نعني العمل التطوعي الإنمائي للتقريب بين فئات المجتمع، ويا حبذا لو كان هذا العمل سبباً في التعاضد والحيلولة دون الاحتكاك، وسبباً لفتح قنوات المعرفة الحقيقية واستثناء أشكال التظاهر وحبّ الظهور.
أعود إلى القول أنني لا أحاول رسم صورة مثالية أو مشهد ترف فكري لا يحتمله الواقع المُعاش، وإنما انطلق من بُعد قد تعبِّر عن جانب منه مقولة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار بأن «الواقع لا يُشار إليه وإنّما يُبرهَن عليه». فما أحرانا بأن نحكِّم العقل والبرهان المنطقي وننتهج النقد العقلاني في تجديد مقاربتنا للواقع، وأن يكون الفيصل بين المُحاوِرْ والمُحاوَرْ المعرفة المطلقة أو المعلومات المطلقة وتحت قبّة معرفيّة تجمعهما.
ينادي بعض المُحلِّلين الاقتصاديين بضرورة اعتماد خطط عمل ثلاثية أو خمسية لمتابعة تنفيذ رؤى وتوجيهات قيادتنا؛ بما في ذلك قياس مستوى الإنجاز في القطاع العام والقطاع الخاص، وبهدف تدارك نقاط الضعف، والبناء على محاور القوة والكفاءات الوطنية.
وفي لقاءين بجمعية مستثمري شرق عمّان الصناعية خلال الشهر الماضي أيضاً، أوضحت أن التواصل بين القطاعات المختلفة خير خطوة لبناء الثقة وهي مصدر قوّة، وأن الاستثمار الأهمّ هو الاستثمار في رأس المال البشري، فقد آن الأوان لأن نتحدث عن التنوّع والتواصل على أساس احترام الآخر من جهة، وتحديد العلاقة السببية بين الفعاليات الرئيسية في ما يتعلق بالمأسسة والمؤسسية وديناميات التواصل والتفاعل ضمن مجموعة معينة. ومن الضروري وجود إطار توضيحي لعمل كل قطاع وأولوياته، ليس على المستوى الوطني فحسب، ولكن على المستوى الإقليمي أيضاً ضمن ما أسمّيه هنا الخطّ البياني الحواري الإنتاجي بين جميع الأطراف الفاعلة بمؤسساتها المختلفة، ذلك من أجل أن نتجاوز إعادة الحديث واجتزائه عن هذا القطاع وذاك القطاع إلى الحديث الأشمل عن قطاع الكرامة الإنسانية والتفويض والتمكين للمواطنة الفاعلة، التي تُسهم في تحريك عجلة النموّ إلى الأمام، ولا سيما أن عدد سكان الأردن تضاعف أربع مرات منذ التسعينيات وحتى الآن، وهناك 40% من مساحته خاوية تشمل أراضٍ متاحة للزراعة تستحق الاهتمام إنْ أردنا أن نتحدث بلغة السياسات، لا السياسة، وعلى المديين المتوسط والبعيد، عن الاندماج والتكامل بين المياه والغذاء والطاقة والبيئة الإنسانية. وأُسجِّل هنا بكل تقدير ما رأيته من سِمات الجِدّ والمثابرة لدى جيل جديد من أبناء الصناعيين التقيتهم خلال زيارة جمعية صناعيي شرق عمّان، الذين تلقفوا الأفكار حول الإبداع والتشبيك والتكامل بعقول مفتوحة وإرادة طموحة للتطوير والتعامل بالحلول الإبداعية مع المشكلات الإنتاجية.
من الواضح أن وضع الأولويات ووضع إطار لتوضيح عمل كل قطاع من الضرورات التي تفرضها أعباء يحملها الأردن تفوق قدرته التحمّلية ولا سيما في مجالي الطاقة والمياه، اقتصادياً وبيئياً، وهناك مسؤوليّات للإقليم تجاه هذا الوضع، فلا توجد دولة في المنطقة تستطيع أن تعيش مائياً لوحدها، مما لا بد معه من نظرة فوق قطرية في هذه القضية وسائر قضايا التكامل ضمن إطار المشرق العربي، الذي يمثل ككيان تخطيطي (70) مليوناً من المواطنين. فالعناصر الرئيسة للتكامل والتعاون متوافرة في ما بيننا إذا كانت لدينا القناعة بأن النهضة الاقتصادية الجديدة عمادها الاحترام المتبادل والاستقلال المتكافل.
ومن المفترض أن ميزة الهوية العربية تجمعنا للانطلاق استناداً لها من فكرة تطوير مفهوم بلاد الشام أو الهلال الخصيب، الذي قد يؤدي إلى زيادة الدخل القومي الإجمالي لهذا الإقليم بنسبة 79% – وفق تقارير البنك الدولي – خلال مرحلة ما قبل الوصول إلى العام 2030.
ولعل الحديث عن أعباء اللجوء يذكّرنا بأن الهجرة الجماعية الأولى من سورية إلى الأردن، يوم قام السلاح الجوي لجيش الانتداب الفرنسي بقصف المركز التجاري في مدينة دمشق وإحراقه، وأصبح يسمّى هذا المركز منذ ذاك اليوم بـ «سوق الحريقة»، ونتذكر كذلك أخوتنا الفلسطينيين، لنقول أن القدرة التحملية للأردن تنطبق على جميع من فاؤا إلى حمى الأردن، كما وصفهم جدي المغفور له جلالة الملك المؤسس عبد الله بن الحسين، واندمجوا في المجتمع الأردني ما يشير إلى أنه علينا تطوير هذه القدرة التحملية بكفاءة لننتقل من الرعاية إلى التمكين والتفعيل للمواطنة.
وهل يمكننا البدء بمسار إقليمي محوره الإنسان؟ ما يعني الانتقال من نهج قائم على «التصنيف » إلى نهج شمولي يضم الجميع بلا تمييز. وعلينا أن نوحِّد جهودنا ونركِّز على الإجابة عن الأسئلة الحرجة بغية الانتقال إلى أسلوب عمل متداخل مندمج، يأخذ بالحسبان معرفة رأس المال المجتمعي ويُعنى به.
في حقل الإنتاج الصناعي، ومع تسارع تطورات الثورة الصناعية الرابعة والأتمتة وانترنت الأشياء في الوقت الذي تراجعت فيه معدلات النمو الاقتصادي، علينا أن نعيد حساباتنا في كيفيات الاستفادة من هذه التطورات للدفع بالنمو في بلادنا لينال نصيبه من التقدم، ولنحاول في هذا الصدد أن نستطلع مدى عمق الأبعاد المستقبلية عندما يقال إن الشركات والمؤسسات الناجحة في العالم التي تتحمل مسؤوليتها الاجتماعية ستحظى بكمٍ هائل من المعلومات الجديدة النفيسة، والتي ستكون رهن الإشارة لديها لأغراض التحليل والبحث. ويتوقع معهد ماكينزي العالمي أن الإمكانات الهائلة الكامنة في إنترنت الأشياء ستضيف ما قيمته 6,2 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي سنوياً بحلول العام 2025.
هنالك تحديات في الاقتصاد الوطني تدعو إلى برامج مرنة تسمو فوق الثنائيات، وتواكب المتغيّرات الاقتصادية السريعة في العالم، وتجسِّر المسافة بين النموذج القديم الثابت (النظم، التشريعات، القوانين) ومتطلبات اليوم والغد أو النموذج الجديد للحاضر والمستقبل. فلا بد من استراتيجيات جديدة لإعادة هيكلة الاقتصاد السياسي والاجتماعي وطنياً وإقليمياً، للخروج من حالة تزايد الاغتراب في المنطقة بعد عقود من الاعتماد الواسع على الريع بدلا من الإنتاج.
وهنالك تحديات تزداد حدّة مثل ارتفاع تكاليف المعيشة في المدن. فالأردنيون ينفقون – بحسب الدراسات – حوالي 38% من دخل العائلة على المواد الغذائية، كما أن 87% من متطلبات الطاقة الغذائية اليومية للفرد يتم توفيرها عن طريق الاستيراد، في الوقت الذي قد تنتهي موارد الرعي من نباتات أردنية بعد جيل أو جيلين على الأكثر. فكيف نستطيع أن نجسِّر بين مفهوم الجوع والإطار الأشمل وهو الغذاء والزراعة والمياه والطاقة والملاذ الآمن؛ أي الأساسيات الخمس لكرامة الإنسان، وهي الكرامة التي تشكِّل محوراً لأي استراتيجية تنموية جديدة وأساساً للأمن والأمان؟
إنَّ الحِمل الكبير على الاقتصاد الوطني ليس حِملاً رقمياً وحسب، بل لا بد من فهم الإجراءات التنظيمية في صورة متوازنة وفق معادلة نسبة وتناسب. فاستمرار هجرة السكان من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية التي أصبحت تأوي حوالي 90% من مجموع السكان، يؤدي إلى إفراغ الأرياف من القوى العاملة وخصوصاً في القطاع الزراعي، كما يؤدي حتماً إلى تدهور الموارد في تلك المناطق.
وما يعنينا عند الحديث عن الحرمان بأشكاله المختلفة ومستلزمات المياه والغذاء والطاقة والتغيّر المناخي الذي لا حيلة لنا في تغيّره، هو مواجهة التصحُّر والجفاف وسلامة المياه الجوفية، وتصريف المياه العادمة ومعالجتها، بدلاً من ترك اللوم يطفو فوق السطح ويؤثر على الاستقرار الاجتماعي، ولا بد من التخطيط المتكامل لاستخدام الأراضي لنعيد لهذه الأراضي قيمتها. فالأماكن تمثل طاقة على الأرض، فإما أن نعبئها بالإسمنت والحديد أو نعبئها بما ينفع الناس.
وإذا كانت مسألة مراجعة وضع الأمن الغذائي والحالة المائية لجميع السكان في الأردن مرتبطة بالزيادة السكانية وموجات اللجوء على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، فإن استدامة القطاع الزراعي مرتبطة باستكشاف العلاقة بين الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة والمتغيّرات الإقليمية والسلم الداخلي في العلاقات بين أجزاء المكوّنات المتجاورة في جغرافيا السكن.
فهل بمقدورنا أن نحقق الأمن والأمان من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وننتقل من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج من خلال التركيز على السياسات، وليس السياسة، كأدوات تمكين اقتصادي مبني على أساس إنساني، وأن يكون شبابنا المتعلّم الواعي بداية جديدة لروح الثقة في الاقتصاد والمواطنة والمشاركة الفاعلة في النهوض بالمجتمع معرفياً وإنتاجياً وإبداعياً، والتواصل والتشبيك بين جميع القطاعات المجتمعية وعلى المستويات الوطنية والإقليمية والدولية؟
يوجبُ علينا الوفاء للأجيال القادمة ومسؤولية حَمل الأمانة تحديد هدف الرسالة الإنتاجية والإنمائية الكليّة إنسانياً، أي الانتقال في المقام الأول إلى وضع يستحق أن نقول من خلاله إننا سائرون نحو التنمية والوجود المستدام بمعطياتنا ورؤانا التي تعكس إرادتنا.
ولا بد لنا عند الحديث عن الشباب، وإلى الشباب أيضاً، أن يكون الخطاب على أساس الاعتراف بهم ليس كفئة عمرية وحسب، ولكن ضمن حديث الكفاءات وبالتركيز على التمكين وتفعيل الإمكانات والطاقات، بدلاً من الرعاية والنظر إليهم داخل إطار من التابعية.