كتب : احمد سلامة
كان الأصدقاء ينعتوننا بـــ “المكتب السياسي”، وأظن أن أول من أطلقها على مجموعتنا هو المرحوم عبدالله حمدان (أبو مروان)، وأطلقها على سليل التندر، لأننا تأخرنا ذات حملة انتخابية في نقابة الصحفيين، في تحديد موقفنا من النقيب. يومها كان الأخ عبدالله حمدان يقود مشروع للذهاب إلى تسوية، وسألوه عن موقفنا فقال “والله المكتب السياسي ما اجتمع لسا في الرأي”، وذهبت حكمة ووسما.
كان أعضاء المكتب تسمى أحيانا أيضا بـــ “عصابة الرأي” (نسبة للصحيفة)، وأحيانا أخرى “العصابيون الرجعيون زلم النظام”. أي يتفاوت الوصف ويتبدل حسب المحبة والابتعاد!
كان “المكتب السياسي” يضم دوما: عبدالله العتوم، محمد الخطايبة، باسم سكجها، سمير الحياري، وأنا. ويتوسع أحيانا ليشمل أكثر من هكذا عدد. وكان أول من عمَّر مزرعة منّا خارج العاصمة هو عبدالله العتوم، لكنها كانت بعيدة نسبيا (في سوف)، ونذهب إليها في المناسبات. ولمّا انضم خليل مزرعاوي، المصور الكريم والمحترم للمكتب السياسي، أضحى منزله خلف صحيفة الدستور ملتقى رئيسيا لنا.
وعلى حين قرار خفيّ فاجأنا (الباشا سمير الحياري) بأنه قد استكرى مزرعة باهية في فم الحمر، كان صاحبها على أظن أنه فحيصيا هاجر لأمريكا. وليت الباشا اشتراها أيامها لكان الآن تلاعب الملايين أصابعه!
وصارت تلك المزرعة ملتقانا وأضحت بديلا ملموما أكثر من مشاعية سماحة الوالد المرحوم محمود سعيد في عين الباشا،
حيث لا خصوصية هناك تتاح للوافد.
المزرعة كان مكانها عبقريا، ومعزبها جواد حد الحاتمية، والجو العام في المزرعة يظلله الدراق والخوخ والتين والرمان. كانت مبادرة الباشا أبو أسامة باذخة بفتنة عارمة. في إحدى ليالي السمر العماني في قلب الصيف وعلى شرفة تلك الفيلا المزمومة وسط “مزرعة الباشا” – هكذا أضحى اسمها! – التأم شمل المكتب السياسي ليلتها مع ضيوف صاروا سمار دائمين تقريبا لنا في تلك الحقبة: خالد محادين عطر الله روحه بروائح الجنة، وعبدالله العتوم، والدكتور صبري ربيحات (والذي كان في ذلك الوقت يبعد قليلا بمعنى التوقع عن سدة الوزارة لكنه سبق الجميع إليها!)، والكاتب الصحفي الشاب الأنيق والرقيق رمضان الرواشدة الذي انضم إلى الرأي بعد أن كنت قد تركتها، وأتذكر خليل مزرعاوي كان، والباشا المعزب أبو أسامة.
أعلن اليوم أن الجلسة التي كان نجمها صبري ربيحات لا تمضي سلسة بالعادة، فهو يمتلك موهبة لا يستطيع ضبطها
في (تبويز الأحاديث الجادة)، لأن تكوين صبري في طفولته قد أورثته ملكة اللاتواصل في الاستماع، وقد تجده يخرب عليك أكثر تجل عقلي إن (قرفك أو قرف من الإطالة أو محتوى ما تقول). وعلى طول العلاقة التي جمعتني به سعيت تجنب الاحتكاك، وظل مشروع تربص حذر يهيمن على علاقتنا برغم أننا عانينا من تلك الومضات الصبرانية.
أسجل اليوم، بعد مرور قرابة الثلاين عاما على تلك الحادثة، رأيا كتمته طوال حياتي عن صبري ربيحات، لم أره في حياتي نبيلا كما كان كتلك الليلة، حين انقض على عبدالله العتوم منتصرا لبوح رمضان الرواشدة، رأيته شهما بأكثر من التوقع،
ورأيته كريما برغم إنفاقه المال بحكمة، ورأيت صبري عميقا.. عميقا.. مفكرا وإنسانا خلاقا. كنت أحسب أن صبري ربيحات رجل التوازنات والانسحاب لحظة المواجهة في القمة. لكني ليلتها اكتشفت في صبري جوهره الحقيقي، ولقد توطدت علاقتي به دون أن يعلم حين أدركت فروسية النبل لديه، لقد فرد كل قلبه غطاء لبوح ذلك الفتى الجنوبي الأصيل، وردع بأخوة من حاولوا النيل من (ونسة رمضان).
اليوم، سأروي قصة ذلك الجنوبي الطيب حد الإبداع رمضان الرواشدة، بعد أن انتهيت من قراءة روايته المدهشة الجديدة (جنوبي)، لأنها بدأت عندي من وحي حنين صبري للحب الونيس في تلك الليلة ومن شرفة الباشا التي كانت في كنف (قصر البركة وساكنه) في الحمر، اندلع سؤال آخر الليل في الحوارات التي يهدها السهر والسمر والطعام والحزن المفاجئ. ألقى الشاب المدهش رمضان الرواشدة سؤالا بريا وبريئا فيه حسرة لقسوة الأطر الأمنية عليه أثناء توقيفه في أزمة جامعة اليرموك الكبرى التي خلفت قتلى وجرحى وجراحات في نفوس الطلبة، ورمضان كان من هولاء الذين تجروحت روحهم من قسوة رؤوها من غير لزوم.
كان سؤال رمضان حزنا أكثر ما فيه إدانة. لكن، أحد الزملاء اختطف ميكروفون الحديث (تعبير يستعمله عبدالله العتوم عادة ولا يوجد ميكروفون)، وانهال على رمضان بسيل من تصور أمني جارف لم يبق ولا يذر. وأكمل زميل ثان قسوة النقد لرمضان. وتزعزع ذلك الفتى الشهم رمضان الرواشدة، وعلى حين ثورة انفجر في الوجوه وفجّر الجلسة على غير عادته مضى صبري ربيحات يصارخ بحمية وانتفض فاردا قلبه وروحه مفراشا لأحزان رمضان، وأخلى له الدرب والمجلس ليتداعى أنّى شاء ودون أن يسمح لدعاة التصور الأمني في الجلسة الانقضاض عليه.
كان ذلك اللقاء بالنسبة لي قد حمل إلي هديتين، الأولى: تعرفت على صبري وروحه رغم أن معرفتي به تمتد لسنة ١٩٧٤، وأيقنت أن لصبري قلبا يتسع لكل الحب الإنساني. الثانية: ضممت إلى أساتذتي في الحياة روائيا مدهشا وصاحب رسالة بعين دامعة والعين الأخرى على الوطن، كان هو رمضان الرواشدة، الذي لم أعرف منه سوى الأخوة والحسنى والحب.
منذ تلك الليلة كان رمضان الرواشدة حالة خاصة عندي في عالم الصحافة، فهو ليس يساريا بالكامل، ولا هو ابن النظام المستبد والمتعالي بتاريخه على دونه من البشر، وظل رمزا للدولة حنونا وعقلانيا، وهو في الإبداع رغم أنه يروق له أن يكون كاتب عمود صحفي إلا انني رأيت وأرى فيه صورة للروائي الأردني الفذ صاحب تجربة خاصة، وهو يتوفر على عناصر إبداع موهوب في صناعة الجملة الروائية، بموسيقى خاصة به تترك للقارئ حرية اختيار العُرب (بضم العين والراء). فقد يقرأ نصه على سلم الصبا وقد يكون على وقع الحجاز ويذهب إلى الريست في تصوف حروفه.
رمضان عندي أهم كاتب رواية أردني شرفني أنني كنت من أوائل من قرأ له “الحمراوي” قبل الطبع. ناشدته يومها: امضِ بها إلى المطبعة، وقبل قرابة الأسبوع أكرمني أبو أوس بزيارة روايته الجديدة “جنوبي” لعقلي، هذا النص مبتدأه في مزرعة الباشا أبو أسامة في الحمر، ومنتهاه هذه الصفحات التي قاربت المئة.
لا أريد أن أجري عرضا نقديا لرواية رمضان الرواشدة الجديدة، بل أود تقديمها للقائ بهذه السطور:
كثيرون منا قفزوا قفزا من سلة المعارضة إلى مصطبة الحكم. ولشدة حماسهم كسروا أرجلهم ووقعوا على خصومهم، فكتموا أنفاسهم لكن الألم ظل يلاحقهم. وبعض بعضنا أخجله ماضيه حين بدّل الشمسية، فكان يرتبك فيرفعها في الصيف فيثير السخرية وينساها بالشتوة فيبتل ويكابر، وثالث ظل يحس بالخجل في الانتقال.
رواية الجنوبي تقدم رمضان الرواشدة التجربة الذي وازن الصعود من بئر حرمان المعارضة إلى شمس الدولة المشرقة بحنوّ لم يستطعه أحد فينا. إن الموازنة بين حقوق الماضي ومتيسرات الحياة في حاضر الدولة وبحضرة النظام لم أعثر لها في حياتي من سمو كما في سمو رواية الجنوبي، فرمضان الرواشدة يحكي عن تحربته في الدولة بعين الصوفي الثوري النزيه ويقيم تجربة الثوري بسطوة ابن الفرسان الملتحم بقلب القلب في عقل الدولة. وهو في روايته لا يكتم شيئا من وجدانياته، ولقد اتكأ على تجربة شعرية فريدة تخليد البوح بشعر صوفي، وهذا عندي كله جديد، ولا أستطيع أن أقول له لا، ولا أمتلك إلا مباركة تلك التجربة.
الثلجة في عمّان التحضير لها أمدني بروح التوحد مع رمضان الرواشدة في الـ (جنوبي) وأكملت ذلك التدفق الوجداني مع تجربة سيدة أردنية مبدعة في التوثيق، خطت كتاب عن تجربة المرحوم الدكتور فوزي الملقي، أول رئيس وزراء في عهد الحسين العظيم، ثروت سليمان المشاقبة. حياديتها مدرسة تصلح أن تعمم فيما نكتب فيصير أكثر فائدة. سأعود لها ولمؤلفها قريبا.