داوديه يكتب عن عبد الكريم الكباريتي
إللي في الخيّر بنقال
محمد داودية
تذكرت مقولة: ‘جرير يغرف من بحر …’، حين انتهى دولة عبد الكريم الكباريتي من كلمته المتميزة، في جاهة ابني عمر. بالفعل كان الرجل رقراقا منسابا رشيقا عذبا فكَها.
فوجيء غالبية الحضور ودهشوا من سلاسة الرجل وجزالته واحتفائه بالسجع واتقانه له. أوليس هو من نحت جملة ‘الدفع قبل الرفع’ التي ما تزال سارية في العالمين منذ 1996 ؟!
لم يتحدث الكباريتي منذ اكثر من عقدين في محفل عام. ولا هو من المولعين بشاشات الفضائيات، ما خلا حديثه خلال اجتماعات الهيئة العامة للبنك الأردني الكويتي، التي تصدر عنه خلالها، إشارة تتناقلها وسائل الاعلام وتحتفي بها.
امتدحني أبو عون فمنحني شهادة ساعتز بها كل عمري، هي الشهادة الثانية الأثمن في حياتي، بعد شهادة الملك الحسين يرحمه الله، المكونة من كلمة واحدة هي: ‘النشمي’.
ألاحظتم كيف هو سحر الكلمات وهيمنتها واستحواذها، الذي هو قابل للحياة، والاهم والأثمن من كل مال الدنيا ؟!!
لم ارد على محبة الكباريتي الغامرة فورا، رغم ان الواجب هو ان أرد وان اشكر وان أقبل رأسه أيضا، فقد أسبغ عليّ كلاما لا يمحوه الفناء، سأورثه لعمر ولحسن ولبناتي ‘الى وِلْد الولد’.
(سآخذكم الى قصة حدثت معي: تلاسنت مع خالد المحادين يرحمه الله ويحسن اليه، في أمر ما. و:ولعت’ بيننا. وأبو سِنان لا يجارى ولا يبارى فهو سيد الكلام. كان ذا حجة لاسعة جدا فلا يهزم أبدا. قلت له يا خالد انا لن انازلك فيما تتقنه انت و لا اتقنه أنا! سأتوقف عن الملاسنة. وانا مستعد لمنازلتك بما اتقنه انا ولا تتقنه انت مثلي: ‘المباطحة’. تعادلنا وتصادقنا صداقة حارة.
كيف لإعلامي مثلي ان يلج حقل الغام فيجعل كلامه موضع مقارنة مع كلام الكباريتي !! الكباريتي لا يدانى، لمن لا يعرفه.
ولمن لا يعرفه، فهو زاهدٌ مترفعٌ معتكفٌ الآن. وكان عبدالكريم الكباريتي أرطبونا، في اعلى جاهزية الإشتعال، تنطبق عليه مقولة: لكل امريءٍ من اسمه نصيب.
جاء الاصدقاء الى جاهة عمر داودية التي يترأسها دولة أبي عون و’في نفسهم يسمعوه’. تحدث فأخذ القلوب، هذا السهل الممتنع، رغم أنه تفادى الحديث في السياسة، التي يظل حديثها يرن في كل البلد، ويظل الناس يتناقلونه، لأنه يصدر عن وطني صادق قوي امين.
كان في تمام الإتزان والكياسة والروح العذبة الفكِهة.
واللافت اللافت جدا، بالإضافة إلى ما ارتجل من درر، كان ذلك الإقبال الكاسح على الرجل، سلامٌ وعناقٌ ومودةٌ وقفشاتٌ فليس للرجل اساءات ولا ‘تجاوزات’. كان يعرف الجميع. وله مع معظم الحضور ذكريات طيبة. وسرعة بديهته واحدة من مزاياه.
تغزّل بمعان وبالطفيلة كما لم يتغزل عاشق بديرة.
قال لمعالي المهندس مالك حداد: انت اكبر مظلوم.
تجاذب لمع الحديث وتغزل بتوفيق باشا كريشان وبنضال الفراعنة وبالمهندس محمد عطية المعاني وبنبيل الغيشان وبجميل النمري وبفواز باشا الشهوان وبتيسير العمايرة وبعبدالله الخوالدة وبعبدالله فريج وبالدكتور نبيل الخطيب وباسامة الرنتسي وبعاصم العابد وبسمير الجبور المجالي وبزياد الكردي وبوجيه ابو خضير وبمازن الحديد وبحاكم المحاميد وبالدكتور صلحي الشحاتيت وبالكابتن محمد الدلابيح وبخليل المزرعاوي.
اثنى على البلدوزر خليل عطية وقال: الجاهة القادمة لخليل عطية او لصالح العرموطي. واثنى على خالد زاهر الفناطسة وعلى رمزي نزهة.
تعرفت عليه عن قرب شديد في مجلس النواب الثاني عشر (1993-1997) ولما لمست دوره وحركته وتكتيكاته المدهشة، التي استمد بعضَها من الساسة اللبنانيين في بيروت، حيث درس في جامعتها الامريكية، اطلقت على عبد الكريم الكباريتي لقبَ ‘الارطبون’.
وقصة الارطبون جرت ايام فتح اجنادين.
علِم الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ان في اجنادين وقرب الرملة قائدا داهية اسمه الارطبون استعصى على الفاتحين، فقال قولته الشهيرة: ‘سأرمي ارطبون الروم بأرطبون العرب’.
أرسل الخليفةُ، داهيةَ العرب عمرو بن العاص إلى الأرطبون، فهزمه واستولى على الحصن بتدبير داهيةٍ فاق دهاء ارطبون الروم. (تفاصيل القصة موجودة على محركات البحث).
شبهت حركة عبد الكريم الكباريتي السياسية ومناوراته التي لا تنقطع، بالرأس الذي يجر الشاحنة، التي كنا نحن النواب نركبها. يجر الرأسُ الشاحنةَ بركابها الى نقطة محددة في اول نزول العقبة، ثم ينفصل عنها فتهوي بمن فيها الى بحر العقبة !!.
كنا الكباريتي وأنا أول من خطب وأعلن حجب الثقة عن حكومة دولة الدكتور عبدالسلام المجالي. وكان أبو عون رأس الحربة في معركة رئاسة مجلس النواب لصالح معالي سعد هايل السرور، ضد المرشح دولة طاهر المصري الذي كنت من داعميه. إلى أن ‘اضطر’ أبو نشأت إلى السفر، فتحالفنا مع كتلة الاخوان المسلمين ورشحنا معالي عبدالرزاق طبيشات والشيخ عبدالرحيم العكور ضد كتلة معالي سعد هايل السرور وعبدالهادي المجالي.
قلب الكباريتي الموازين في مجلس النواب عندما طلب رفع الجلسة لأخذ استراحة بعد ان تعادل المرشحان بالاصوات.
خلال الاستراحة اشتعلت ‘الألوات’ من مصطفى باشا القيسي مدير المخابرات وسميح باشا البطيخي نائبه. وتمت الانحيازات. وخسرنا تلك الانتخابات.
عندما كلفه الملك الحسين يرحمه الله ويحسن اليه برئاسة الحكومة، خبطت كفّأ بكف وقلت لنفسي: ضاعت البلد. ‘كريم’ الناعم هذا، يصلح وزير خارجية و وزير اعلام و وزير سياحة، أمّا رئيس حكومة! انه أنعم وأكثر تهذيبا، من ان يديرها !! فالحد الأدنى من مواصفات رئيس الحكومة، تتمثل في الصلافة والشِّدّة وأقلها ان يكون من اصحاب ‘العين الحمرا’ !! بأمانة ‘استقليت خيره’ !!
في اول جلسة لمجلس الوزراء تحدث عبدالكريم الكباريتي فكشف عن شخصية جديدة مختلفة واعية مثقفة جسورة، ذات انياب ومخالب وعيون تنين تقذف نارا. تحدث حديثا سياسيا اقتصاديا متماسكا وقال اسمعوا يا شباب: ما حدا يبلفكم. انا اللي نقيتكم واحدا واحدا. ما حدا غيري له علاقة بتعيين أي وزير فيكم.
كانت الولاية العامة بكامل جلالها وبهائها وقيافتها وطولها، تتمدد امامنا على الطاولة، يمكن ان نلمسها ونستقوي بها. قلت لنفسي: هيك رئيس الحكومة والا بلاش. هذا رئيس وزراء ‘منيّب’ كامل الاوصاف. هذا ارطبون حقيقي.
شحنتنا تلك الجلسة بشحنات ثقة واعتزاز وقوة. وقلت لنفسي كان يجب ان انتبه الى ان الملك الحسين أبو ندهتين، لا يختار رئيسا خرعا ولا رئيسا شرشبة خرج.
ذكر دولة الرئيس ثلاثة أسماء من الطاقم الوزاري في تلك الجلسة الاولى لمجلس الوزراء بدأ بإسمي فقال: انا اخترت محمد داودية بسبب صورته الناصعة امام الرأي العام الأردني. وانا اخترت عبد الكريم الدغمي لانه ضليع وشجاع وانا اخترت كمال ناصر لانه نقيب محامين منتخب حاز رضى قطاع واسع.
ذكرت لُمعا لا تمثل شخصية أبي عون ولا تفيه حقه على البلد. ويكفي ان نائبا محنكا مجربا مخضربا بلدوزرا ‘منيّب’ هو خليل عطية قال عندما انتهى الكباريتي من كلامه في ‘طُلبة’ ابني عمر: هيك رئيس الوزراء.