يحتفل العالم الاسلامي في الاول من محرم من كل عام بذكرى الهجرة النبوية الشريفة ذلك الحدث التاريخي العظيم، الذي شكل علامة فارقة ومرجعية في تاريخ الاسلام فكان اول لبنة على طريق بناء الدولة الاسلامية .
ويأتي ذكرى الهجرة النبوية يوم غد السبت الاول من محرم ، والمسلمون في أشد الحاجة لتدبر معانيها ومقاصدها كالتضحية والتخطيط وانتقاء الصحبة الجيدة وعدم اليأس والأخذ بالأسباب لتحقيق الهدف، والعمل الجاد لإعادة وحدة الأمّة .
أكاديميون وعلماء دين بينوا أن الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية جائر شريطة أخذ الدروس والعبر من هذه الحادثة العظيمة، وأن يكون خاليا من البدع التي لم يصح لها سندٌ في القرآن أو السُنَّة، إذ أن العبادات في الشريعة الاسلامية عبادات توقيفية؛ يتوقف فيها على ما أمر الشرع.
أستاذ الفقه والمصارف الإسلامية في الجامعة الأردنية الدكتور رائد نصري أبو مؤنس قال إن الهجرة النبوية لحظة حاسمة انتصر فيها الحق على الباطل والعدل على الظلم فكانت نقطة جوهرية في تاريخ الاسلام والحضارة الإسلامية .
وأضاف: في كل عام نستذكر اللحظات العظيمة مع ما كان قبلها من محن وابتلاءات واختبارات تعرض لها رسولنا الكريم والصحابة الكرام والتي كانت بمثابة دورات تدريبية قاسية لإعداد الجيل الأول الذي حمل مشاعل النور والهداية للعالم وللبشرية وكان قادرا على مجابهة وتحمل التحديات لاحقاً في الفتوحات الإسلامية .
وأشار إلى أن لحظة الإعلان عن استعداد الجيل للقيام بالمهام العظيمة كانت لحظة الهجرة النبوية، ولأن الأمة الاسلامية والدولة الاسلامية تأسست في المدينة المنورة ، وبدأت تكبر وتتسع وتتجذر، أدرك المسلمون وفي مقدمتهم الخليفة العادل عمر بن الخطاب، أنه قد آن الأوان لأن تتميز الأمة والدولة الاسلامية عن غيرها بسمة حضارية وهي اتخاذ التاريخ ، وبعد أن استشار أصحابه كعادته، اتخذ الهجرة النبوية علامة مرجعية للتاريخ الإسلامي.
وأوضح أن ذكرى الهجرة وبداية العام الهجري، فرصة جيدة للإنسان لإجراء جرد في أعماله الماضية والاستعداد بإيجابية وروح عالية منطلقة للعام القادم لذلك ينبغي على الإنسان أن يتفكر فيما أنجزه من أعمال وفيما أخفق فيه، وفيما يتطلع إليه مستحضراً شعاره التفاؤل .
وقال أبو مؤنس : ليس لهذا اليوم في الدين الاسلامي أي صفة عبادية أو قداسية ، موضحا انه ليس لنا أعياد مقدسة سوى العيدين: الفطر بعد رمضان وعيد الاضحى بعد الحج ، ولهذا فإننا نتعامل مع هذه الأيام باعتبارها أيام عادية، لكنها تحمل معان وعبر .
وأوضح أنه لا يخص هذا اليوم بأي عبادة من العبادات، إلا أنه لا مانع من أن نتبادل التحيات التي تحمل المعاني الإيجابية والتفاؤل بهذه المناسبة ، فليس من المجاز شرعاً تخصيص أي مظاهر خاصة بالعبادة لا بصلوات ولا بأعمال أو طقوس معينة ، فالعبادات في الشريعة الاسلامية عبادات توقيفية، يتوقف فيها على ما أمر الشرع الذي يحدد العبادات التي يريدها من المؤمنين.وقال عميد كلية الشريعة في جامعة آل البيت الدكتور عماد الخصاونة إنه كلما يحل شهر الله المحرم ، يتذكر المسلمون حدث الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة المنورة ، والتي كانت سبباً في تكوين أركان الدولة، التي تعد أساساً لنصرة الدين ، ولم تكن هجرة خوف ورعب ، لأنها كانت بأمر الله تعالى .
ومن أهم الدروس والعبر ، بحسب الدكتور الخصاونة التضحية التي يبذلها الإنسان في سبيل انجاح مسيرته، فلما غادر الرسول صلى الله عليه وسلم مكة قال: “والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنني أًخرجت منك ما خرجت”.
وبين أن الصحبة من الدروس المستفادة، إذ أن للصحبة الحقيقية مبادئ وقيم، تجسدت في الهجرة النبوية الشريفة، فقد اجتمع بأبي بكر الصديق -رضي الله عنه – خصال عظيمة ، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يختاره في رحلته ، فقال أبو بكر الصديق لرسول الله في الغار :” يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا “، فقال صلى الله عليه وسلم:”ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما”.
وأوضح الخصاونة أن من الدروس اتقان التخطيط وحسن توظيف الطاقات فهما من أهم صفات القائد الناجح في تحقيق مبادئه ، ويتجلى ذلك واضحاً في دور المرأة في إنجاح هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، من خلال ما قامت به السيدة عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما .
وأضاف أنه مع علمهما بخبر الهجرة ، لم يفشيا سر الرحلة لأحد ولم يتوانيا في تجهيز الرحلة فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها، فأوكت به الجراب، وقطعت الأخرى فصيرتها عصاماً لفم القربة، ولذلك سميت بذات النطاقين.
وبهذا الموقف يثبت حاجة الدعوة إلى النساء، فهن أرق عاطفة وأسمح نفساً وأطيب قلباً لإنجاح الرحلة في سبيل نشر الخير ونصرة الحق.
أما فيما يتعلق بالصيام يوم الهجرة، فقد ثبت أن الصيام في شهر محرم مستحباً لقول الرسول الكريم:” أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وفيما يتعلق بالدعاء ، جاء في فتح الباري لابن حجر أنه قال بعض السند ،:لأني أشد خشية أن أُحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة ، وكأنه أشار إلى قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ ، وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ ، مع العلم أنه لم يثبت أن هناك دعاء مخصوص بالهجرة، فلا مانع من أن يدعو المسلم بالأدعية القرآنية والنبوية الشاملة لكل أبواب الخير .
وعن تبادل التهاني بذكرى الهجرة النبوية قال الدكتور الخصاونة : إن كان من التهنئة إظهار الفرح والسرور والبشر بهجرة النبي الكريم ، فهي من الامور المباحة وتعد من باب الدعاء للمسلم بأن يدعو الله تعالى أن يكون عام خير وبركة فلا حرج في ذلك.
عميد كلية الشريعة في جامعة اليرموك الدكتور أسامة الفقير الربابعة، أشار إلى أن ذكرى الهجرة النبوية تحمل رسائل للإنسان المسلم الواعي الذي يهتم بدينه ، على أن لا يعتقد أنه من المستحيل نشر الدعوة الإسلامية تحت أي ظرف كان.
وبين أن المسلم يبحث عن البدائل ولا ييأس مهما ضاقت به السبل وتعرض إلى صعوبات ومعوقات ومناكفات وتحديات، وعليه أن يبحث عن أفكار جديدة مبدعة وعن الفرص والحلول لنشر الدعوة.
وقال أن الرسول الكريم سعى واجتهد لنشر الدعوة ، وكانت الانطلاقة من مكة إلى المدينة المنورة، ونعتبر في ذلك حرص النبي الكريم على نشر الدعوة وبذل الغالي والنفيس ، فقد ترك المسلمون أوطانهم وديارهم وأموالهم في سبيل الدعوة ،فهي ليست دعوة شخصية أو فئوية أو جهوية، بل لإنقاذ الناس من الجهل والضلالة .وأضاف الدكتور الربابعة أن قضية تذكر الذكرى العظيمة في أصله أمر مندوب مستحب يؤجر عليه المسلم ، فيذكّر أبناءه وجيرانه وأهل منطقته وعمله بعظم هذا اليوم، قال تعالى” وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ “، والهجرة من أيام الله، فسيدنا عمر بن الخطاب ، لم يجد لتأريخ المسلمين من تاريخ الهجرة النبوية نظراً لقيمتها العالية في حياة الأمة الإسلامية كافة .
وأشار إلى أن هناك وسائل متعددة لتذكر يوم الهجرة ، كاجتماع الناس في بيوت الله وإعطاء المحاضرات فيها وفي الجامعات والمدارس وعقد مسابقات وإلقاء أناشيد دينية . وقال الربابعة إن الصيام أصله مشروع ، وفعله بالذات مشروع ، وهو مشروع في أي وقت لأنه من العبادات، ولكن من غير الجائز القول أن النبي فعل ذلك يوم الهجرة، كما يحرم الكذب على رسول الله عليه السلام بأنه ارتدى اللباس الابيض في هذا اليوم .
وبين أن من خصص بطعام أو لباس أو شراب على الأصل العام ففعله جائز ولا بأس فيه، فمن يفعل على جواز فعله في أصله العام فهو جائز، ومن فعله على ما ادعى به دليل تفصيلي في تخصيص هذه المناسبة بلباس أو طعام أو شراب أو هيئة فهو غير صحيح.
أستاذ التفسير وعلوم القران في قسم الدراسات الاسلامية في جامعة الحسين بن طلال، الدكتور فرج حمد الزبيدي، قال تعد الهجرة النبويّة أهم حدث في الإسلام بعد حدث البعثة؛لأنّها نقلت المسلمين من مرحلة الضعف إلى مرحلة القوَّة والدولة.
وبين أنه عندما نستذكر الهجرة النبويَّة نستذكر معها بناء الدولة الإسلاميَّة الأولى في المدينة المنورة؛ لذا كان من فقه الصحابة – رضي الله عنهم – أن جعلوا تأريخ الإسلام يبدأ من بداية الهجرة النبوية.
وأشار إلى أن حكم الاحتفال بذكرى الهجرة النبويَّة جائز، شريطة أن يكون على هيئة التذكير بالدروس والعبر المُستفادة من الهجرة، وأن يكون خالياً من البدع التي لم يصح لها سندٌ في القرآن أو السُنَّة.
وأوضح الزبيدي أن من أهم دروس حدث الهجرة النبويَّة ، هو التخطيط المنظم المسبق لكل عمل يراد به التوفيق والنجاح، وفهم التوكل كما يجب الأخذ بالأسباب المادية المتاحة ثم التوجه إلى الله سبحانه بالدعاء. وأكد أن الإسلام ليس ديناً كهنوتيَّاً محصوراً بأداء الشعائر والمناسك، إنَّما هو دينٌ يشتمل عقيدة وشريعة، إيمان وعمل، وأن أحكام الفقه الإسلامي تشمل عدَّة أنظمة لتدبير شؤون الحياة، أهمها النظام السياسي الذي يلزم منه بناء دولة تسوس البشر بالأنظمة الإسلاميّة المستمدة من القرآن الكريم والسُنَّة النبويَّة، داعيا الأمّة َالى إعادة بناء الدولة الإسلاميَّة التي توحّد صفوف المسلمين، وتجعلهم كما أرادَ الله لهم (كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس)، والتي تُخلصهم من التبعيَّة للأجنبي.
وأوضح أن العبرة الأهم للأمة الاسلامية في ذكرى الهجرة هي: العمل الجاد لإعادة وحدة الأمّة بكيان سياسي يعيد لها هيبتها، ويجبر ضعفها، ويُأمِّنُ خوفها، ويحمي بيضتها.
بترا