مساحة الكهف لا تتعدى 45 متراً مربّعاً، لكنه عبارة عن تحفة فنية بتصميم وتنسيق بشري، زخرفتها حجارة طبيعية تشكلت بفعل العوامل الجوية، ليتحوّل إلى عنوان للباحثين عن الراحة النفسية
عجلون/ ليث الجنيدي/ الأناضول
من السّهل على الإنسان أن يختار فكرة تميّزه عن غيره، لكن الصعوبة الحقيقية تكمن في كيفية تطبيقها وتحويلها إلى اكتشاف عمليّ وابتكار يحول دون المفاضلة والاختيار.
هذا ما سعى إليه الأردنيّ سفّاح الصبح (47 عاماً)، حيث تبلورت لديه الفكرة عام 2013، عندما قرّر أن يخلق عالماً داخلياً موازياً أو بديلاً للعالم الخارجي، عبر إنشاء كهفٍ بأسلوبٍ استثنائيّ.
لم تكن فكرة سفّاح عابرة، فقد أراد أن يستجمع ذاته بعيداً عن عالم مليء بالتشوّهات والآلام، وليعيد الرؤية فيه بطريقةٍ غير مألوفة، لاجئاً إلى تصميم بيتٍ للتأمل، على شكل كهفٍ تاريخيّ، يحتوي على تأثيراتٍ نفسية بأثرٍ من البراعة التنفيذية في تنسيق الصخور.
مكانٌ يُحاكي بشكله بيت الإنسان الأول بتطويراتٍ زمنية مختلفة، لتشكل نموذجاً فريداً، من خلال مئات القطع الصخرية التي جُمعت من الطبيعة إلى جانب قطعٍ أثرية تفرض على الزائر الخوضَ في تفاصيلها وتشكيلاتها والإبحار في خلوةٍ نفسيةٍ لاكتشاف الذات.
الخروج عن المألوف هو ما يميّز المكان، فبهِ ومن خلاله يجتمع البعدان الفنيّ والروحيّ، إذ تستكين فيه النفس والارتياح من جهة، ولا تبرح عيون ناظريه عن الاستمتاع بجمال التصميم واختيار صخوره، التي تنطق روعةً وأناقةً، ليروي فيها الحجر قصصاً للبشر.
مراسل الأناضول زار المكان واطّلع على طريقة تصميمه واستمع إلى صاحبه الذي أبدعَ الوصف بكلّ إتقانٍ واحترافية، فقد كانت الكلمات تنساب على لسانه دون تصنّع أو تكلّف، مستنداً إلى براعته باللغة، فهو أستاذ جامعيّ بالنقد والأدب العربيّ.
استهل سفّاح حديثه بالقول: “المعاناةُ زادُ المبدع، فقد كانت لديّ معاناة (لم يذكرها)، فقررت أن أنجز عملاً مميزاً، وكان الخيار هذا الكهف بصورته الحالية”.
وأضاف: “بدأ العمل عام 2013، واستمرّ 6 أشهر متواصلة، أنجزتُ خلالها 90 بالمئة منه، وباقي التفاصيل استمرّت 7 أعوام”.
وشرح قائلاً: “العمل كان على 4 مراحل، الأولى كانت لتصميم الهيكل، والثانية لجمع الحجارة، ثم رصّها، وصولاً إلى الأخيرة وهي مرحلة الديكور”.
أما عن نوع الحجارة، فقال: “كنت أبحث عن نوع معيّن لا يتوفّر، وهي حجارة غير منتظمة الشكل معروفة في المنطقة باسم الحجارة المخرّمة، إضافة إلى الحجارة النادرة”.
وفيما يتعلّق بالأخيرة، أوضح سفّاح “هي حجارة جمعت بشكلٍ منفرد، وكنت أحصل على كل واحد منها من مكان مختلف، وهي في شكلها توحي بأنها مجسّمات بشرية وحيوانية”.
قبل الوصول إلى الكهف، كان لا بد من المرور بتصميماتٍ أخرى، أراد من خلالها سفّاح أن يُضفي حالةً من الشّغف لما سيأتي بعدها، فهناك طاحونة هواء صنعها بنفسه، وبيتٌ للطيور.
ومن المعالم الأخرى التي تنتشر في أرجاء المكان، شلّال ماء من الحجر الطبيعيّ تعلوه سمكةٌ منحوتة عليه، لا يَعرف إن كانت نحتاً يدوياً أو متحجّرة، وحجرٌ كبيرٌ على شكل حيوان كأنه ديناصور، ويتوسط كل ذلك نبات “الطّيون” ذو الرائحة الزكية، الذي تشتهر به المنطقة.
لدى الوصول إلى باب الكهف، يُهيّأُ لناظره بأنه صُنع قبل قرونٍ طويلة، ولكنه في الواقع تصميم ذاتي، استطاع سفّاح من خلاله أن يُبرز فيه أدقّ التفاصيل القديمة والتراثية، فالقطع المعدنية المنتشرة على أطرافه وقفله والمفتاح، أسلوبٌ لم يعد موجوداً، وانقرض تصميمها منذ عقودٍ طويلة.
ومع دخول الكهف، يبدأ زائر المكان بفقدان السيطرة على نظراته، ولا يقوى على التحكم بتحرّكات يديه التي سرعان ما تنطلق للمس ومعاينة كلّ قطعةٍ حجرية وتراثية وأثرية يحتويها المكان.
عُزلةٌ بالكامل عن العالم الخارجيّ، أضواء خافتة وهدوءٌ يسيطر على المكان، لا تسمع فيه إلا صوت الماء، من شلال صغير يتوسط أحد جدران الكهف، وهمساً خفياً تنطق به تشكيلات صخوره.
يقول سفّاح: “أول تحدٍّ كان بأن ملكت الشجاعة لمقاومة المعترضين، فمثل هذه الأعمال يعتبرونها كمالية ولا حاجة لها”.
وتابع: “كما ترى، الحجارة ذات إيحاءاتٍ بشرية وحيوانية، جَمل وطيور وذئب وجمجمة رأس، وقرون غزال.. من يجلس هنا يحتاج أن يتعمّق بإحساس الحجارة”.
وأضاف: “ما يريح النفس أن الحجارة تجبرك على التأمّل والتعمّق فيها، وقد تناولت هذا العمل الإنشائي بعقلية المكتشف ومنهجية الباحث وإحساس الفنان، فكانت النتيجة نموذجاً فريداً وعملاً جديداً”.
ومضى يقول: “هذا هو كهف التأمّل الذي بات مزاراً من غير قصد للمواطنين من داخل الأردن وللسيّاح من خارجه، وقد وجدوا فيه فرصة لاستجماع الذات”.
وأشار “لم أجد أجمل من الحجر مادة الوجود الأول، للهروب من التراث إلى التراث، صخور تعود لآلاف السنين، لم يحدث لها أيّ تعديل إنسانيّ، فقد شكلتها الطبيعة بصورتها الحالية”.
واعتبر سفّاح بأن “المكان أسلوب موجز وفريدٌ على مستوى الأردن والعالم، من خلال تراكم أفكاره واجتماعها في هذه المساحة الصغيرة، وإثبات واقعي على أن الإنسان قادر على الإبداع”.
وختم بالقول: “إحساساً بالمسؤولية العامّة وعكساً للشخصية الأردنية المبدعة، أرى أنه لا مانع لديّ من تقديم المكان للخدمة العامة واستقطاب الراغبين في البحث عن اللا مألوف”
المصدر : وكالة الاناضول