رثاء الحبيبة الراحلة شريكة الدرب منال البصول
بقلم محمد سلمان القضاة
وكأن التاريخ يعيد نفسه أيتها الحبيبة الغالية الراحلة، شريكة الدرب منال محمد حسن سعيد البصول، ففي يناير/كانون الثاني 1983 كنا قد التقينا وتعارفنا للمرة الأولى، وانعقد بين قلبينا وثاق المحبة والمودة والوئام والانسجام، وتحديدا في الثاني والعشرين من هذا الشهر الذي يمثل بداية عام جديد.
آهٍ، كم تشاركنا الآمال ورسمنا لوحات الأمل، ثم آهٍ كم تعرّجت بنا الطريق، فكنت أنتِ دوما المُشجِّعة والمُثبِّتة والمثابرة والطموحة والصبورة، غير مبالية لكل الصعاب، وباذلة أقصى ما لديك من طاقة وحب وحنان ومقدرة لدفع عربة شراكتنا دوما إلى الأمام.
أنتِ التي صَبَرت على كل حالات التقشف التي مررنا بها برغم مرارتها، وأنتِ التي ناضلت حتى أعادت مركبتنا إلى خط سيرها كلما هبت عليها العواصف الرملية، وبعضها كانت عواصف هوجاء لا ترحم.
أنتِ التي لم يستطع لمعان المجوهرات أن ينعكس على مرآتك، فلقد اخترتِ أن تُقلّدي كل طفل من أنجالك وكريماتك درجة علمية مرموقة بدلا من أن تتقلدي أنتِ نفسك قلادة ذهبية لامعة.
أنتِ الحبيبة العصامية التي خلا معصمها مما تتزين به النساء ويتفاخرن به في الحفلات والمناسبات، وليس ذلك بُخلاً من جانبكِ ولا شُحَّاً من جانبي، فأنتِ التي كنتِ تصرِّين على الدفع بأنجالك وكريماتك إلى مقاعد العِلم والتعلّم في حقول الهندسة الطبية أو اللغات الأجنبية وآدابها أو حقول الطب والجراحة أو الهندسة المدنية أو غيرها، دونما تمييز بين ابن وابنة.
مهلا حبيبتي، ومعذرة يا غاليتي، فلقد نسيت غافلا وليس متغافلا أن أذكر وأن اعترف أنكِ أنتِ التي سجلتني في مدرسة حسن كامل الصباح في إربد، وذلك كي أتمكن من الاستعداد للتقدم للتوجيهية الأردنية من جديد.
كنا قد تزوجنا للتو، وكان لدينا الأطفال راني وأحمد وريما، بينما كنت لا أزال أعمل في البنك السعودي الأميركي في الرياض لدى الشقيقة السعودية براتب مرموق، غير أنك أصررت على العودة إلى الأردن لمواصلة الدراسة واقتفاء أثر طريق العلى، ممثلا بالتعليم الجامعي والعالي.
فوجئتُ يوما بكِ ونحن نقيم وأسرتنا الصغيرة في إربد أنك كنت قد ذهبت إلى مدرسة حسن كامل الصباح في إربد بشمال المملكة الأردنية الهاشمية، وقمت بتسجيل اسمي وبدفع الرسوم وبإحضار الكتب المدرسية المقررة، وقلت لي حينها، هلم يا حبيبي محمد، فليس مطلوب منك سوى أن تهتم بالجانب الدراسي وكان هذا في بداية الفصل الدراسي لعام 1989ميلادية.
وكم أخجل من نفسي وأشعر بالندم أنني لم استطع أن أبادلك التضحية بمثلها في حينها، فلقد كنت أنتِ الشغوفة للاهتمام بالأطفال والتخلي عن مواصلة الدراسة في مدرسة عين جالوت الثانوية للبنات في البارحة بإربد، حيث كنا متزوجين وكنا متحابين وكنا لا نزال طالباً وطالبة.
عزاؤك يا حبيبتي أنني كنت وسأبقى على قدر المحبة والوفاء والإخلاص، وعزاؤك يا غاليتي أنني تمكنت من الحصول على معدل مرموق في الثانوية لذلك العام، فكنتُ من بين الأوائل في لواء عجلون.
وكم أذكر الآن يا حبيبتي قيامك بتهنئتي في الصحف المحلية الأردنية بمناسبة النجاح والتفوق، الأمر الذي جعلني أحصل على بعثة دراسية لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة اليرموك، في نفس العام 1989م، ولا عجب أنني تخرجت من الجامعة العريقة بمعدل تراكمي عالٍ في بداية 1991م بمدة قياسية وبأقل من ثلاث سنوات بدلا من أربع.
هنا، اسمحي لي حبيبتي أن أتقدم بالشكر لجميع أساتذتي، والذين من بينهم الأخ النسيب الفاضل الأستاذ نزيه محمد حسن سعيد البصول، الذي أسهم في حصولي على معدل 100% في مادة الرياضيات، والأخت الأستاذة ماتي شريكة درب الأخ النسيب الغالي قاسم محمد حسن سعيد البصول، التي بذلت معي جهودا كبيرة، وهي تحطّم من أمام طريقي الجامعي كل صعوبات آداب أمهات الكتب الجامعية الإنجليزية. فشكرا أبا محمد نزيه، وشكرا للفاضلة الأخت ماتي أم محمد قاسم، وفي ميزان حسناتكما.
والمعذرة حبيبتي منال، مرة أخرة، فأنا ما نسيتكِ، ولا أردت الحديث عن جانبي، ولكنني وددت الاعتراف الذي لم يسبق لي نكرانه، بأنك أنت من أخذ بيدي إلى التعليم الثانوي، وأنك أنت السبب في تألقي وإبداعي، وأنك أنت التي شجعتني ودفعتني دفعا إلى أروقة الجامعات وإلى صالات الثقافة ومنابر الفكر والعلم والتعلّم، وإلى حقول المعرفة وأكثر.
إذن، يمكنني الاعتراف راضيا وصادقا بأنك أنتِ من قام على رعاية طلبة العلم وطالباته التسعة، وذلك بدءا من قيامك بتعليمي ومرورا بتعليمك لأنجالك الأربعة وكريماتك الثلاث، وأما الطالب التاسع الذي أسهمت في تعليمه فقد لا يسمح المقام للإشارة إليه!
نعم، حبيبتي، منال، أنتِ التي كنت الحبيبة الغالية وستبقين، وأنتِ التي كنت شريكة الدرب الأمينة التي حفظت الشريك بكل المعايير، وأنتِ التي كنت المدبرة والمديرة لهذه الأسرة، وأنت التي بادرت إلى تشييد العمارة المتواضعة بطبقاتها الثلاث وشققها الست لأطفالها، وأنت التي زينت منزلها بأشجار الزيتون وأصناف أشجار الفاكهة، وأنت التي زينت المنزل بالدوالي أو أشجار العنب وصنعت لها ما يسمى “المعرَّش”، ليس هذا فحسب، بل وأنت التي ملأت المنزل بكل أصناف النباتات المنزلية المتوفرة.
نعم حبيبي، ونعم غاليتي، وهناك الكثير مما لا يتسع المقام لذكره من المحطات التي وقفتِ فيها معي ومع أسرتنا منذ 22/1/1989، ولا تزالين، محطات قد نفرد لها مجلدا كبيرا لاحقا، غير أنني أشهد أنك صاحبة الفضل بعد الله في كل ما احتوته رحلتنا على مدار أكثر من 34 عاما.
وقبل أربعين يوما، يختارك المولى سبحانه وتعالى إلى جواره، ذلك في فجر الاثنين الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2018 ميلادية، الموافق للخامس والعشرين من ربيع الأول لعام 1440 هجرية.
ترحلين حبيبتي، وأنتِ في ريعان الشباب، فتلك مشيئة الله، وذلك هو الأجل، وإنني يا حبيبتي لأبقى أشهد لك بالعفّة والتقوى والورع، وإنني يا حبيبتي لأبقى أعلنها على الملأ بأنني سعدت بمعرفتك وإنني لراضٍ عنك رضى صادقا وإنني أسامحكِ اليوم ويوم موقف الله العظيم، دنيا وآخرة، وإنني لأرجو الله أن يلهمك لأن تسامحيني، فدينك في رقبتي يعجز عن سداده الجبابرة.
فلقد جلست إلى جوارك ساعات طوال قبيل رحيلك الأخير، ولم تكن ظروفك الصحية تسمح لك بالحديث، غير أنني أقرأ أفكارك واستشعرت ما تودين قوله.
وأنتِ يا حبيبتي لم توصيني بشيء، فكأنك نشأت زاهدة عزيزة النفس ورحلت بمثل عزة النفس نفسها، فلم تقولي لي أين تحبين أن يكون مرقدك الأخير، على سبيل المثال، ولو كنتِ فعلت لكنتُ نفذت وصيتك بكل محبة ووفاء وافتخار، وأعلنتها على الملأ، فنحن تعودنا على الشفافية.
غير أنني يا حبيبتي استشعرت أنك ترغبين أن تكوني أقرب ما يكون إلى جدة أطفالك، إلى حيث عمتي الحبيبة الغالية الفاضلة الراحلة لطيفة محمد موسى الضمور (الضميري)، فكان لكِ ما أردتِ دون أن تطلبين، فكان مرقدك في نفس الربوع التي تعرفت عليك فيها يا عمري، فلترقد روحك بسلام.
وصدقيني يا حبيبتي أنني لا أملّ من الدعاء لك في كل يوم وليلة وفي كل لحظة، وإنني قد ملأت الغرفة بصورك الجميلة بكل محطات حياتنا منذ ابتسامات اللقاء حتى آهات ودمعات الرحيل الأخير، وأما أطفالك، فأراهم جميعا يلهجون لكل بالدعاء بلا كلل أو ملل، ويشعرون بالفقدان الكبير.
وعزاؤنا يا حبيبتي أنك أنت التي لها ديون كبيرة في أعناقنا، فأنت ما شعرتِ يوما بخوف من المجهول، فلم تبادري إلى إخفاء شيء هنا أو بعض شيء هناك، وأنتِ التي بادلتني الوفاء بمثله والمحبة بعينها والإخلاص بذاته، بل والتضحية بما يرجِّح كفتيكِ فيها، فكيف أنساكِ، وكيف لا أبقى أتضرّع للمولى أن يعفو عنك ويغفر لك ويرحمك ويسكنك فسيح الجنان، راجيا الله تعالى أن يكتب لنا اللحاق بك ونلتقي في جنات النعيم، من فضله تعالى.
بقي القول، إنني سأكون لأطفالكِ كما كنتِ أنتِ، وسأبقى وفيا لعهدك ما حييت، فوداعا يا حبيبتي، فإنني اسمع أذان العشاء، أحد الأوقات التي اعتدت أن أدعوا فيها لشفائك، لكنني اليوم أدعو المولى لك بالرحمة والمغفرة وأن يتقبلك شهيدة الجراح والآلام وداء البطون والسموم، وأن يجمعك بأطفالك الراحلين وشقيقتيك الراحلتين ووالديك ووالديَّ والأجداد والأحبة الراحلين أجمعين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وداعا حبيبتي، وداعا غاليتي، وإلى اللقاء، ولا أدري إن كنت تستشعرين أنني أجلس إلى جوار متحف صوركِ في كل يوم، وأنني أتحدث معها وأرد على ابتساماتك فيها بابتسامات وتأمل ودعوات ورضى بما كتبه الله، فأنتِ باقية في قلبي وفي فؤادي الوحيدة والأكيدة وفي قلوبنا أجمعين يا حبيبتنا جميعنا، إلى يوم يبعثون. فوداعا مجددا يا حبيبتي التي لن أنسى فضلها وحبها ووفاءها ولن أنساها ولا أنسى ابتساماتها ووجهها البشوش ما حييت.