مسرحية بكرة وبعده
(مسرحية لم تسدل ستارتها)
سليم النجار
عرضت مؤخراً مسرحية “بكرة وبعده” على مسرح شمس، الكائن في الشميساني- عمان، من إخراج عبدالسلام قبيلات، وتمثيل إسلام العوضي وحياة جابر وكفوف إبراهيم العلمي، وتأليف موسيقي موسى قبيلات، ومساعد مخرج معتصم سميرات.
يتصدَّى عرض مسرحيَّة “بكرة وبعده” إلى مسألةِ الصراعِ الأزليِّ في البحث عن الحريَّة، وما يخلفه من حواجز نفسيَّة وروحيَّّة تحول دون التواصل الإنساني، وتؤدي إلى القطيعة وإثارة حوافز الغيرة ودوافع الحقد بين البشر، هذه القطيعة تفوق كل التصورات أحياناً.
ومن أجل نقل هذا البُعد الفكري عبر نص مسرحية “بكرة وبعده” فقد تم توظيف حكاية في غاية البساطة والوضوح، وهي حكاية الحريَّة.
الحرية في المسرحية تتقدَّم على الحب، والزمن يمثِّل الحريَّة المطلقة، حيث يذهب الإنسان وحيداً مُعرَّى من الحب. وتُفنِّد المسرحية واقعاً متآكلاً لا تغلبه سوى الأحلام، فيرتوي الفنُّ المسرحيُّ حين يرشح روبة الذاكرة وتنزُّ من عصارها ظلالنا.
تَسلَّحت المسرحية بمواقف تجاه الواقع والوجود، واقعيَّته لم تقوَ على محو رومانسيَّة ثوريَّة تحفرُ فيه، ويحفر لها.
وتشكِّل ثيمة “إسلام العوضي وحياة جابر” مركزاً رئيَّساً في بلورة الصراع، الذي كان بمثابة بوصلة توجِّه مسارات الأحداث التي انطلقت مع انطلاق مشاعر البحث عن الحريَّة المسكوت عنها من جانب الطرفين “إسلام العوضي وحياة جابر”، حيث لم يصرِّح أحدهما إلى الآخر بحقيقة هذه المشاعر نتيجة للشعور بالخوف الدفين لدى كل منهما من التعاون وبقدرة التعبير عن القيود التي تحدُّ حرية التعبير.
وهنا استطاع مخرج المسرحيَّة عبد السلام قبيلات توظيف المعنى الذي يحمله النص في بُعده الدراميِّ، من حيث أنَّ لعنوان المسرحيَّة تداخلاً عضويَّاً مع دلالة الأحداث ومعناها، حيث يُعبِّر دراميَّاً عن شعور “الشجرة” والصليب الذي كان معلَّقاً عليها، فهذه إشارة إلى أنَّ الحريَّة مصلوبة، وقد استطاعت الممثلة حياة جابر من خلال حركة جسدها الذي وُظِّفَ بشكلٍ لافت، هذه الحركة للجسد الذي بنى علاقة مع فضاء المسرح عبر الزمن، خاصةً وأنَّ مفردات الفضاء- من ملابس إسلام العوضي وحياة جابر واللوحة المغطَّاة بصور شخصيات- بدت مجتزأة وتتواصل عبر الزمن، من خلال صوت الحياة الذي شكَّل زخم الحياة، الذي يستمر مع إسلام العوضي في مسايرة حياة، وقد كان لافتاً في حركته الجسديَّة التي شكلت ظلالاً لصوت حياة.
فالمنعطفات الدراميَّة الأساسيَّة لمتنِ النص تدعوه بأن يوقف على حدود المنطق في صناعة الدراما المسرحيَّة. وكما ينبغي أن تكون،فقد عمل هذا المسار القافز للأحداث على إرجاء حالة الإقناع عند المشاهد بتوالي الأحداث منطقيَّاً، وبالتحديد ذلك المشهد الذي كان يمكن أن يتماهى إلى مستوى محاكاة ما يُراد منه على صعيد الرسالة الفكريَّة، عندما دخل صاحب الصوت الذي بَدا في أول المشهد شخصيَّة مُلتبسة ذات أبعاد نفسية، وقد برع في توظيف حركة السوط تجاه حياة جابر وإسلام العوضي، كما وظَّف ملامح الوجه في إرسال رسالة مُعبِّرة تحمل ثنائيَّة متضادَّة: الطيبة والعنف، وما ترتَّب عليها من تداعيات وانعطافات حادَّة في مسارات البُنية الدراميَّة، سواءً كان في زمن وقوع الأحداث في الماضي أم في زمن محاولة اكتشافها في الحاضر، وما نتج عنها، وما أدت إليه من مخرجات ونتائج انعكست على مجمل الوقائع والأحداث والشخصيَّات، بالرغم من أنَّ هذا المشهد يمتلك بُعداً جوهريَّاً وبؤرة مركزيَّة في رسم خطوط الصراع الجدليَّة الأساسيَّة، التي تُعدُّ مُوجِّهةً لمجريات الأحداث ومسارها.
هذه المنطلقات التي شكَّلت خطوط صناعة هذا العرض، ووظَّفتها حياة جابر من خلال نبرتها الصوتية التي كانت تأخذ في بعض الأحيان صوت أوبرالي، بطريقة تسعى من خلالها إلى تحقيق فعل التواصل مع الرصيد الجماليِّ والذوقيِّ للمشاهد، عبر تقنيات معاصرة أنتجتها ثقافة عصر الاتصالات والتكنولوجيا ومُتغيِّراتها المُتسارعة. فصورة الظلال، وحركة المُمثِّل في الصورة، وقدرة حياة على التناغم مع صورة الظلال ضمن إيقاع العرض المسرحي، جعل تحقيق فعل التواصل مع المشاهد ليكون العرض المسرحي أكثر قدرة وتمثُّلاً لنبض الواقعِ اليوميِّ وتحوُّلاته، ومتغيراته، وتبدُّلاته، التي يعيشها المشاهد بكل تفاصيلها.
فتح موسى قبيلات أشرعة عوالمه الموسيقيَّة التي صاحبت العرض على أنسجةٍ وتآلفاتٍ صوتيَّة لا تَقِلُّ أهميةً عن المفهوم الجامد للشرقيِّ والغربيِّ، ذهب إلى أبعد من تقليديَّة المُشترَك بينهما رغم أهميَّته، فأحلامه لم تكن هناك، ولم تكن تبحث أساساً عن تسوية؛ ذهب إلى أبعد! وغاص في أعمق! فكيف تجلَّى ذلك يا ترى؟ كتأليفٍ حافَظَ على أصالةٍ متجدِّدة لناحية لغة الموسيقى المفتوحة على الجملة النصيَّة للمسرحيَّة، وكان له القدرة على ضبط إيقاع الموسيقى لتواكب المشاهد المسرحيَّة، وكأنهما يتناغمان في عرض ميلودرامي، لكنَّه ميلودرامي مسرحي.
إذن تمُدُّنا مسرحيِّة “بكرة وبعده”، نصاً وعرضاً، لمسرحٍ متجدِّدٍ ومبتكر، من خلال التركيز على البحث والتواصل، الذي يأخذ في الغالب منحىً جماعيَّاً شموليَّاً نابعاً من خصوصيَّة التجربة المسرحيَّة بوصفها إبداعاً يتشكَّلُ عبر فاعليَّةِ النصِ والحوار، مروراً بأسلوبيًّةِ الأداءِ ورؤية الإخراج بما يتضمنه من عملية هدم وبناء للمشاهد المسرحيَّة، وإعادة تشكيل العناصر السمعيَّة والبصريَّة والحركيَّة، التي تُسَلِّم في إنشاء معماريَّة العرض، الذي يمنح الجمهور تفاعلاً ذهنيَّاً يقود إلى تعدديَّة القراءات، من خلال عمليات التأويل والتكثيف الدلاليِّ وإعادة إنتاج المعنى.