كتب : احمد السلامة
تقديم ضروري.. زمان كانت ( الثنائيات )في بلادنا بطعم الحب تقول الراي والدستور ، عطا علي وجبري، الاردنية واليرموك ، جبل عمان واللويبدة، المركز الثقافي الامريكي والمركز الثقافي السوفياتي ، دخان الغولدستار والفيلاديلفيا، والكنت والمرلبورو، بغداد والقاهرة.
وكانت الحكومات، زيد الرفاعي ومضر بدران، والاعلام صلاح ابو زيد وعبدالحميد شرف.
كانت الصحافة مرة في الاحكام العرفية واخرى في الديموقراطية،
ولقد كان لي شرف معايشة الصحافة في المرحلتين العرفية والديموقراطية ( صحفي مهنة وكاتب مقال اسبوعي ) واشهد ان هامش ما كنت اتمتع به من حرية في العصر الاول لم يزد ولم يضمحل في العصر التالي لأنني باختصار كنت كاتبا مومنا بالنظام واباهي بذلك في العصرين، كان هامش النقد واسعا لدينا وقد يرى اخرون غير ذاك وهم احرار وقبل ان تدخل الصحافة نفق صحافة حزب الشارع في السنوات السابقات واضحت الشتائم والنقد الجارح الجارف هو سيد الصحافة وعنوانها كنت اكتب على مهل وحب وطني دون ان تكون كل مقالة اكتبها بوابة هجوم كاسح ثلاثة ارباعها شتائم والربع الاخر مسبات.
كانت الراي تورد لخزينة الدولة ملايين الدنانير كل سنة ليس كل قديم جميل وليس كل حديث جميل لكن القيمة تبقى ذات معنى في كل زمان ومكان.
اليوم..
مات رجل دولة كريم ومحترم وعايشه جيلنا كرئيس للوزراء ودولة زيد الرفاعي اطال الله في عمره كاننا لم نعرف سواهما …
وكنت قد كتبت عنه مقالة عام ١٩٩١ حين تنحي وتقدم لحمل الراية من بعده جيل اخر مثله ، صورة من صور النزاهة والرقي هو دولة ابو نشات ( طاهر المصري ) امد الله في عمره وكما كان يقول لي رحمه الله محمود الكايد ( ابو العزم ) خير من ركب المطايا في رئاسة الوزراء ثلاثة ( فوزي الملقي احمد عبيدات وطاهر المصري )
كان مضر من بناة الامة الاردنية ومن اخلص من ركب في الكرسي الخلفي في مركبة الحسين بن طلال الباهية طيب الله ثراه
ولما غادر موقعه ادركت انها نهاية حقبة جديدة في العصر الاردني ولقد كانت كذلك
اتذكر.. ان مقالتي كانت تنشر في زاوية السبعة ايام ) الزاوية الذهبية في كل يوم سبت الرقم الصعب في التوزيع ، وحتى ذلك اليوم لم اكن التقيته رغم انني غطيت كصحفي اغلب حولاته في المحافظات .. عند المساء سمعت صوته اول مرة جاءني عبر الهاتف من مدينة العقبة قال رحمه الله.
يلا انا الاوان ان نراك يا احمد …
الظاهر ان الخبر عندكم بـ ( الراي ) ان الترويحة هذي المرة تقاعد نهائي وضحكنا معا ورايته بعد ذلك مرة واحدة في منزله العامر بعبدون في معية الاخ احمد بيك العتوم ( ابو مهند ) حيث امرني ان اقابله وزميل العمر ورفيق الحياة عبدالله العتوم في دارة الباشا وجدت ان انسب كلام عن هذه الروح الوطنية الجليلة مضر بدران ما كتبته وانا في ميعة الشباب قبل ( ٣٢ )
عاما تقريبا ولذا استأذن القارئ الكريم ان يتقبل حروفي حين كان للحروف وقارها ورمزيتها وكان المقال موقفا وليس خاطرة سباب رحمك الله يا ابا عماد فقد كنت وطنيا باهينا بك
حين يتوارى الأدب والرفيع منه على معنى التحديد تزدهر أشياء أخرى مثل الغناء والحداء، والتنغيم والخط والزخرفة والأرابيسك.
وفي الكتابة الصحفية، يحدث ما يحدث في الأدب، ولو بصورة أخرى، تقع استبدالات تربك الكتابة الصحفية، فتعتذر المبادئ مخلية للمصالح الدرب وتنحني العواطف مذعنة للتطبيل كي يأخذ مداه، وتتداخل أطياف ما هو جوهري بما هو افتعالي، وبهذا فإن عبئا تقيلا ينوء بحمله القارئ يصعب عليه تجنبه، في قدرته على إدراك ما يريده الصحفي فيما يكتبه.
ذلك احتراز أحببت أن اعتصم به قبل البدء في مقالتي هذه، ذلك أنني زججت نفسي في شيء لا أعرف أسبابه بصورة مباشرة هذا اليوم، وخرجت عن مألوف ما رتبت عليه نفسي طوال سنوات مضت.. قناعة وسلوكا، وهو الكتابة عن شخص بعينه، خارج الأشخاص الذين آمنت بدورهم وبفكرهم.
ببساطة وبطريقة مباشرة اكتب اليوم عن “مضر بدران” الذي نزل الدرج في (10 داوننغ ستريت الأردنية) يحمل أوجاعه الصحية، وينضم إلينا كمواطنين شهودا على المرحلة التالية في حياتنا.
في بلادنا يشغل الناس أنفسهم بالقادم، وتقحم الصحافة نفسها أحيانا بصورة مجانية، بتفاصيل القادمين، كيف يلبسون، ولماذا يضحكون، وفيم يحلمون ..؟
وأكاد أزعم أن شيئا من اختلاط المصالح بالقناعات، يصعب التمييز بينهما يقع حين يتناول الناس “القادم”.
ولأن الناس في بلادنا اعتادوا الريبة والشك، في الدوافع حين يتحدث الصحفي خاصة عن رجل دولة، مثنيا عليه.. فإني أقدم لما سأقوله عن “مضر بدران” بما يلي:
أنا واحد من صحفيين عدة بالأردن، لم يريدوا أن تكون حركتهم في المهنة، عبر بوابات الحكومة اية حكومة، وكنا نرى ولم نزل في ” الرأي” أن عدم اقترابنا من خلافات الحكومة والنظر إليها بحياد، يعصم الصحافة عن الزلل والشطط، وأن تبقى في خدمة الدولة ومستجيبة لمصالح الشعب..
وما أكتبه عن المواطن مضر بدران الآن، ليس في خدمة أحد، وليس هو ضد أحد، ذلك أنني على المستوى الشخصي، ليس له علي ما يكون قد قدمه لغيري، وإني كذلك في مستوى العلاقة الإنسانية، لم أصافحه يوما، ولا جالسته قط، وكفى إزاءه، كما هي إزاء غيره ليس فيها سوى قلمي.. !!
اكتب عن مضر بدران، بعد كل هذه المقدمة الطويلة، وكانت كذلك، تلبية واستجابة لريبة القارئ فيما يكتبه الصحفي في العادة..
“مضر بدران”.. رجل دولة اخطأ كثيرا ربما، وتضرر منه عديدون ذلك شيء قد وقع واستفاد منه آخرون كذلك بأكثر مما هم جديرون به، ذلك أمر إنساني يحدث دوما.. لكن جيلنا سيحفظ لمضر بدران مسائل ثلاث، نذكرها في باب التاريخ للأردن ولدوره فيه، وليس لسواد عيونه..
الأولى:- مضر بدران بملامحه وبجيناته الوراثية، هو ابن مدينة بكل ما تعني المدينة من محدودية الخيال، والتضييق على الأساطير الجميلة، لكنه كان طوال فترة حكمه، يحمل هم الفقير الأردني، وكان في وجدانه كما عبر عنه سلوكه يستعذب تذكر شباك مدرسته المخلوع في شتاء الكرك الصحراوي حيث تخرج، أكثر مما كان يميل لليمون بستان أبيه في جرش.. وقد منحته هذه المألة مرونة في الحركة ومتابعة مدهشة في التفاصيل .. فارتبطت انجازات كثيرة في مراحل وجوده في الحكم وباسمه شخصيا، من مطار الملكة علياء في الوسط إلى البوتاس في الجنوب، والجامعات في الشمال ..
الثانية: – ليس أصعب على رجل الدولة أن يفرد صدره لحناجر أو خناجر الجماهير العاتبة، وليس أشد أذى على النفس من ان يكون المرء في الحكم في لحظة التحولات الكبرى . ومن سوء حظ مضر بدران، ومن حسن حظنا، أنه تكفل وهكذا كان قدره ” بقشط زفرة طبخة الديمقراطية في بلادنا””.. فهو غادر بعد أن أزال هذا الزبد وأبقى على ما ينفع الناس المستطعمين بها الذين منحهم جرأة فيها وصل هديرها إلى عتبة داره وقد قبل بذلك راضيا متحمدا.
الثالثة:- مهما كانت اجتهاداتنا في أزمة الخليج، ومهما يحاول البعض فينا إسناد موقفه بانتصار المعسكر الخليجي فيها.. ومهما كانت انتقاداتنا للقيادة العراقية في إدارة الأزمة، فإن التاريخ المحترم، والتاريخ الصادق لما جرى سيذكر أشياء أخرى، ليس هنا مجال لذكرها.
وفي هذه الازمة، كان مضر بدران، مواطنا شريفا، ورجل دولة، حمل نفسه تحت القصف الأمريكي وتسرب إلى بغداد، وحين انفجرت عجلة سيارته لم يتراجع ووصل إلى بغداد.
هو مضر بدران، الذي صاحبنا طوال أزمة الخليج وحربه، ما نقص علينا رغيف خبز بل أعطينا من خبزنا للآخرين، وكانت صواريخ العراق التي تمر على رؤوسنا قاصدة تل أبيب، ووقف من خلف “الحسين” ما اهتز له رمش، ولا تراجع خطوة.
ومضر بدران الذي مضى إلى منزله، حين رفع استقالته “للحسين”، وقعها “خادمكم الأمين”، إنهم كثيرون يقولونها ويرفعونها وهم يعنون مضمونها لكن حين تأتي من مضر بدران، فإن لها طعما آخر يميزها، لقد كان في خدمة القائد دوما، وحريصا على مصالح شعبه..
ويا حسن الختام أيها السيد، أيها الرئيس المحترم.